المكان والرواية.. ماذا ولماذا..؟! مجرد إفادة لا أكثر
حبيب محمود
علي أيّ حال؛ لم آتِ لأعطي درساً في “المكان والرواية”. ولكن أخذتني عزةٌ من طفولةِ حبيب محمود، الذي أعرف له ثلاث “محاولات” في السّرد، نشرها متجرِّئاً على خوض الرواية القصيرة، وهو لا يعتدّ بها إلا بالقدر الذي منحته مُتعة الزمان والمكان، في خيوط أحداث وشخصيات، وحيّزٍ وفضاءٍ، وتفاصيلَ من يوميات ناسٍ عبروا الصورة التي كان عليها بعض أسلافنا..!
بصفتي كاتب المحاولات الثلاث؛ لدي سلطان الإفادة، لا سلطان التقييم والحكم. “زمبوه” و “النخلاوي” و “كشوانية رقم 7″، لم تعد ملكاً لي، هي ملك قارئها إذا شاء. وهو من يحبّها أو يكرهها، يسفّهُها أو ينوّه بها، وهو من يرميها إذا أراد. وسلطان إفادتي لا يجوز خلال المكتوب فيها أو عنها. إنه مقيد بـ “ماذا” و “لماذا” فحسب. أما “كيف”؛ فهو من شأن قارئها، عابراً انطباعياً كان أم نوعياً ناقداً فاحصاً..!
ماذا ولماذا..؟
المكان في “زمبوه” و “النخلاوي”؛ هو مسرح أسلافي الذين انحدرتُ منهم. في صحوي مشهد لأمّي وهي تصلّي بين حافّتيْ العصر والأصيل، في عريش محضونٍ في بستان اسمه “العرجانية”. أشبعني هذا البستان كثيراً بأوائل ما يمنحه صيف القطيف من كلّ شيء يانعٍ وشهي.
أشبعني خلال “الغُرَّه”، وبسر “الماجي”. أشبعتني رائحة “البُكيرات” وهو يُتمِرُ في العذوق في “سطور” نخيل ممتدة. أشبعتني مشاهد “ألأكّارين” وهم يحتفلون بـ “الصّرام”.
اخترتُ “العرجانيّة” التي “تضمّنها” جدّي القديحي من أحد مُلّاك “آل الزاير” في القطيف. اخترتُها لأبني كلّ أحداث “زمبوه” على مشاهد رأيتُها وتصوّرتُها، وتخيّلتُها أيضاً. جلبتُ صوت “النهيق” الذي تتبادله حمير البساتين. جلبتُ البعوض قبل صلاة المغرب، أحسستُ برطوبة قلب الأسد وهو يخلط التراب بنداوة الهواء المزعجة.
احتجتُ إلى الخيال كثيراً بالطبع. لكن “زمبوه” الرواية القصيرة الواقعية في بُنيتها ومضمونها؛ تورطت بواقع المكان والزمان، وورّطتني معها في مراجعة المواسم. لا يجوز أن أجلب “الكنار” في الصيف، أو أستشهد بـ “الخلال” في أغسطس آب. بل إن صراع الطبيعة الذي خاضه والد البطل؛ كان مناخياً دقيقاً في توقيته. الصرام لا يتمّ في قلب الأسد عادة، إلا حين يجور الصيف أكثر مما تحتمل النخيل..!
وجدير بمن يريد أن يكتب المكان؛ أن يكتب الزمان معه.
المكان في “زمبوه” هو الصورة القريبة جداً من البطل، في يوم من حياة فلّاح يافعٍ يبحث عما يُخلّصه من مأزق الفلّاح المستأجر…!
النخلاوي
وعلى العكس من ذلك مكان “النخلاوي”. فهو الصور/ الصورة البعيدة جداً عن البطل. 40 سنة تفصله عنها، 40 سنة من العمل في أرامكو، وتغيّر كلّ شيءٍ في فضاء المكان وحيّز الأحداث. المكان هنا حالةٌ نوستاليجية خاصة يعيشها متقاعدٌ، إلى حدّ أنه عاد بحنينيته إلى عياف أجهزة التكييف، وتفضيل رطوبة الصيف، ولزوجة الحر، واللوذ بـ “عشة” خوص في فناء “فيلّا” حديثة.
الأماكن كثيرة في “النخلاوي”، لكن سيدها هو المكان الأبعد، القرية بنخيلها وحياة ريفها، وإنسانها، وحكايات أمهاتها، وتعقيدات “البتّ العدْراْ” فيها. “النخلاوي” امتدادٌ لـ “زمبوه”، كأنها جزءٌ آخر لها، ولا يجوز أن تتكرّر أحداثاً أو شخوصاً، وربما ـ بالتالي ـ مكاناً. وليس عليّ أن أجلب مكاناً من الخارج؛ كما فعلتُ في “زمبوه”، بل جئتُ به من الداخل، داخل البطل المفجوع بما آلت إليه النخيل.. بما آل إليه مكان النخيل.. وإنسانُه..!
كشوانية رقم 7
مكان النخيل تسرّب أيضاً إلى “كشوانية رقم 7″، ولكن على قدرٍ أقلّ بكثير. القلة فرضتها خصوصية المكان الأهم في الرواية القصيرة. المكان الأهم هو “الكشوانية”. المكان الذي يضع الناس فيه أحذيتهم قبيل دخول الحرم، حرم الإمام الحسين في كربلاء العراق.
ليس مكاناً، إنه عالمٌ أشدّ زحاماً من تكدّس الأحذية في الرفوف، وأضيقُ من أدراج الأمانات بما فيها. من هنا؛ يمرّ شرفاءُ وأدعياء، بسطاء من المعدان، وضبّاط من الاستخبارات، زُوّار من السعودية، وعسكر من الأكراد. وفي رفوف “الكشوانية” وأدراجها؛ أحذية وأكياس، وحقائب، وخضار، وحقائب.. ومسدّسات، وبنادق جنود. والطفل ـ صبي الكشوانية ـ هو أحد سكنة المكان بما فيه.
وفي هذا المكان؛ تُحكى الأقاويل عن أحداث العالم، من كامب ديفيد، إلى سقوط جيمي كارتر في الانتخابات، إلى الشيوعيين السعوديين في العراق، إلى حرب العراق التي لم تبدأ بعد، وصولاً إلى الحرائق التي يتخيّلها ذلك الصبي الآتي من السعودية..!
ربما قدمتُ إفادة عن “ماذا” و “لماذا” على نحو من الأنحاء. أما “كيف”؛ فهو أمرٌ متروكٌ لمن يقرأ “المحاولات” الثلاث..!
شكراً لك.
———
* ورقة قُدّمت في في جلسة بجمعية الثقافة والفنون، مساء البارحة، قدّمها الصديق الشاعر محمد الخبّازي.