آباء البرّية 2] أمومة المدن
محمد الماجد
وإذا ما سلّمنا بأن لكل رواية من الروايات التي ناقشناها في الجزء الأول من هذا المقال حاضنتها الجينية الخاصة بها، إلّا أننا وبسرعة سنكتشف، وبعينَين مغمَضتَين، بأن السفر والتأمل هما القاسم المشترك لهذه الروايات الست، السفر بوصفه صيغة أرسطية مشائية للدفع بعجلة التفكير إلى أعلى ما يمكنها أن تفعل، والتأمل بوصفه المنصة التي سيتمدد عليها ذلك التفكير ليرتاح، ثم يواصل المسير بعزيمة أقوى وأشد.
وسواء كان كويلو في (حاج كومبيستلا) يتلقى تدريبه الروحي من معلمه بتروس، أو سانتياجو في رواية كويلو الأخرى (الخيميائي) وهو يستمع لنصائح ملكي صادق، أو كما هي قصة مزيد الحنفي مع وصايا سراج الدين الفراتي في مسراه، أو حتى -إذا ما أردتُ الذهاب في هذا الإستقراء إلى آخره- فيما يخص ابن عربي مع وتده نظام بنت زاهر الأصفهاني في (موت صغير)، وأخيراً إيلا ومرشدها عزيز زاهارا، والرومي وشمس التبريزي في (قواعد العشق الأربعون)، فليس من الصعب أن نجد جذراً أو ملخَّصاً توحيديّاً لكل هذه الثنائيات في القصة الواردة في سورة (الكهف)، والتي تروي لنا لقاء جرى بين الخضر وموسى عليه السلام، هذا قبل أن تنقل لنا أليف شافاك تأكيداً يضع كل هذه العلاقات في سياق مخاطبة الخضر لموسى: “إنني أمضي عمري في السفر، وقد كتب الله عليَّ أن أطوف في العالم وأن أفعل ما يجب فعله”، ولن تجترح أليف حينها معجزاً فيما لو قررت أن تخبرنا بأن مهمة الخضر لم تكن لتكتمل لولا براعته في قراءة الإشارات، أو لتقول لنا على سبيل التدريب الذهني بأن الخضر هو الجد الأكبر لآباء البرّية.
بعد كلام الخضر هذا الأخير لموسى، لم يعد مزيد الحنفي خاصرة رخوه كما كنت أظن، فمزيد في مسراه القاهري، باحثاً ومنقبَّاً عن سراة المعتزلة، بدأ وكأنه يستعير لسان الخضر وهو يعرف نفسه للشيخ رشيد بن علي “أنا مزيد النجدي الحنفي، اليمامة-البصرة-بغداد-القدس…، مزيد الظاعن في مدن العقيق ومجاهل المعرفة، وكل يوم يزداد علما بأنه لا يعلم…”، وهنا تذكرت بقية (سراة) هذه المقالة وعلاقتهم بالمدن بوصفها -هذه المرة- أمّاً جينيّةً بالمعنى المعرفي لسلسلة من السُّراة، وتخيَّلت ليز، السفيرة الدائمة لمسعى السعادة الداخلية، كيف كانت ستعرف نفسها على طريقة مزيد: أنا ليز النيويوركية، روما-مومباي-بالي…”، وكنت سأتخيل سانتياجو يتحدث بذات الطريقة: أنا سانتياجو الأندلسي، طنجه-الفيوم-القاهرة “.
واذن، وبعد اعترافنا لـ مزيد بأنه أول من قدّم لنا اقتراح أمومة المدن، لن يكون من المستغرب أن تكون الأندلس، موطن الراعي سانتياجو، وكذلك المسار الذي سلكه للحصول على الكنز وتحقيق أسطورته الشخصية هما ذات الموطن والمسار الخاصين بابن عربي، مع اختلاف بسيط بأن هذا الأخير قد ركب البحر إلى مصر بينما الآخر ركب الصحراء، ومن الجائز اعتبار ذلك مجرد تفرّع بسيط في شجرة الأمومة لا أكثر، ودون حتى أن أتعب نفسي في تتبع مسار باقي (السراة)، ولتعذرني أميمة الخميس على سرقة هذه المفردة الحانية من صفحات روايتها، أصبحت على يقين بأن هذا سيكون هو حال بقيّة أعضاء القائمة: حاج كومبيستلا، وإيلا، وعزيز زاهارا، ودون أن أحتاج لتذكير القارئ بحال الرومي وشمس التبريزي إلا على سبيل المزاح.
هل نسيت بأن أقول أن عنوان هذه الأسطر الأخيرة كان يجب أن أشير فيه إلى الكيفية التي حوّل بها كل هؤلاء الساعون إلى الكمال الأمكنة والمدن التي عبروها إلى ينابيع للمعرفة وأوعية حاضنة للتجربة البشرية، هل نسيت بأن أقول إن كان ثمت مريد، وثمت شيخ، فلابد أن تكون هناك مدينة، أو زاوية، أو كهف، أو حتى شجرة في البريّة، ها أنا أستدرك الآن، وأزيد بأنهم أيضاً كانوا يتمتعون بمواهب فطرية عالية مكنتهم من تحويل المدن إلى أقواس رماية جعلت منهم صيادين بارعين للإشارات، لذلك استطاعوا عبر سفر شاق وطويل من ملأ خزائن قلوبهم، بنوادر من الحِكم، وألوان المتع الروحية، حتى تحولوا في نهاية تطوافهم إلى صناديق من الأسرار المضيئة، حتى لا أقول توابيت خديعة كتلك التي وردت في مقدمتي الغزلية.
يبقى أن هذا السفر الذي عبَّرتُ عنه بـــ (الشاق)، ولأسميه سفر الذهاب، وفي كل هذه التجارب، لم يكن ليتم بداية إلا رغبة من الساعي في الهجرة من (الكثرة) إلى (الوحدة) طلباً للسلام الداخلي، لنتفاجأ برجوعه في سفر العودة، إلى (الكثرة) مرة أخرى، وكل الوصايا المتعلقة بمثل هذه الهجرة، بدأ بالجملة الواردة في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا” كما أنا فيك وأنت فيَّ، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا”، مروراً بنصيحة ملكي صادق “ليس الكل إلا واحد..”، وبيت ابن عربي الشهير” لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة/فمرعى لغزلان ودير لرهبان”، وليس انتهاء بتلك الأبيات الهندية التي أكَلَت لسان ليز “لو تركوني أعانق/ كل شجرة أو كاليبتوس في غابة غانيش/أُقسم لفعلت”، كل هذه الوصايا كانت تحمل في باطنها رغبة عارمة في التفكك، والعودة، لا لشيء إلا لأن غايتها لا تتحقق إلا بتحويل السُّراة إلى رُسُل محبة وسلام، وهذا لا يتم إلا من خلال رجوعهم مرة أخرى إلى حواضنهم الاجتماعية.
فكرة أخيرة، لا ينبغي إنهاء الحديث عن الوصايا دون ذكر حواملها المفاهيمية المتمثلة في (وحدة الوجود) و(الإنسان الكامل) بحسب ابن عربي وشمي التبريزي، أو (الجهاد الحسن) و(الأسطورة الشخصية) بحسب كويلو، أو (السعي إلى السعادة الداخلية) بحسب اليزابيث جيلبرت، المفاهيم التي كان لها الأثر في حمل السالك أو الساعي في الرحلة إلى الوحدة الكبرى مع الكون، على أن تعود هذه المفاهيم في نهاية الرحلة للتشظي والذوبان في عالم الكثرة من جديد، ولعل العجوز ملكي صادق اختصر هذه النهاية ببراعة يحسد عليها: “بمقدور الراعي أن يحب الأسفار ولكن دون أن ينس نعاجه اطلاقاً”.