إيران في السفر الطويل إلى “أبو محمد” السيرة الشعبية من "طفُّوا القناديل" إلى هيبة ضريح "غريب طوس"
كتب: حبيب محمود
- طفُّوا القناديلْ
- أبو محمد توفّى..!
- إمامي مات مسمومْ
- يا هُوْ اللّي ايْخِلْفَهْ
هكذا كانت تقول الـ “ردّادية” الشعبية النسائية في نعي “أبي محمد”. وعلى إيقاعٍ سريع رتيب، وأصواتٍ حزينة؛ يتكرّر البيتان القصيران بأصوات الـ “مُلّاية” وسائر نساء المجلس، لتكون هذه الوصلة آخر ما يُردّد في شجو مجلس العزاء النسائي الذي يُعقد في الـ 17 من شهر صفر من كل عام.
“أبو محمد” هذا؛ هو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عاش بين عامي 148 و 203هـ. وعاش أغلب حياته في المدينة المنوّرة، ثم جلبه المأمون العباسي إليه في خراسان، وقلّده ولاية عهد الخلافة، لكنّه تُوفي قبل وفاة المأمون.
ولذلك؛ لحق به لقب “السلطان” في أدبيات الإيرانيين، وهذه الصفة لحقت به تأثّراً بتتابع الحكم السلطاني الملَكي في إيران. ويُوصَف بالسلطان، لأنه الإمام الوحيد تقلّد منصباً سياسياً في الدولة العبّاسية من أبناء الحسين.
وفي أدبيّات العرب؛ عُرف “ابن موسى”، في إرث دعبل الخزاعي وأبي نواس على زاويةٍ بعيدةٍ جداً عمّا اشتُهر به الشاعران، فضلاً عن أبي فراس الحمداني، والعباس الصولي، وأبي بكر الخوارزمي، وكثير من الشعراء، في حياة الإمام وبعد وفاته.
وفي الموروث الشعبي الشيعيّ؛ يكاد ينظر إليه العوام نظرة المسيحيين إلى “يسوع”، (دون مستوى النبوة طبعاً)، أو نظرة شعب جنوب العراق إلى العباس بن علي في هيبة مكانة “ضريحه” المُجلَّل بالتبجيل. فضلاً عن النظرة الحزينة إلى “غريب طوس”.
أبو محمد
قبل الثورة؛ لم يكن عوام الشيعة، في القطيف تحديداً، يعرفون إيران باسمها السياسيّ. بالأحرى لم يكونوا يذكرون اسمها كما هو معروف في المسميات الجغرافية. ولم يكونوا يسمون مُدنها جغرافياً.. كانت لهم أسماؤهم الخاصة.
كانوا يعرفون مدينة “مشهد” باسم “أبو محمد”، ومدينة قُم باسم “المعصومة”. وكانوا يسمّون “طهران” باسم “شاه عبدالعظيم”..! كانوا ينظرون إلى إيران من خلال الرمزية العقدية، غير مبالين بالمحيط السياسي.
الرمزية العقدية تضع الإمام الرضا ثامناً بين أئمة الاثني عشرية، ووالد الإمام التاسع محمد الجواد. ولذلك كُنّي بـ “أبي محمد”، ولقبه “الرضا”.
أما “المعصومة”؛ فهو لقبٌ عُرفت به أخته السيدة فاطمة المدفونة في مدينة قُم.
وشاه عبدالعظيم، هو عبدالعظيم بن عبد الله بن علي بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وقد دُفن في مدينة “الرّي” الواقعة ضمن حدود العاصمة الإيرانية طهران، الآن.
الإمام علي بن موسى الرضا عاصر الخليفة المأمون الذي عُرف عنه تقرّبه من العلويين، واعترافه بأحقيتهم في الخلافة، على العكس من أسلافه من بني العباس. وتقول المأثورات الشيعية؛ إن المأمون لم يكن صادقاً في دعواه، وأنه مكر للإمام الرضا بتوليته منصب وليّ عهده، لكنه تخلّص منه تسميماً.
دُفن الإمام الرضا في خُراسان، في المكان المعروف بـ “طُوس”، وتحديداً في مدينة “مشهد” المعروفة حالياً.
ويزور الشيعة ضريحه، كما يزورون أضرحة النبيّ والأئمة في المدينة المنورة، وكما يزورون علياً في النجف، والحسين في كربلاء، والكاظم والجواد في بغداد، والعسكريّ والهادي في سامرّاء.
منفذ المنذرية العراقي مقابل خسروي الإيراني
رحلة من كربلاء
حتى أواخر السبعينيات؛ كان السعوديون الشيعة يسافرون إلى إيران برّاً عبر العراق. وأتذكر أننا كنّا نسافر إلى “أبو محمد” انطلاقاً من كربلاء العراق برّاً. كنا نتوقف عند حدود “المنذرية” العراقية، وبعد إتمام إجراءات الخروج، تأخذنا حافلات إلى الحدود الإيرانية عند منفذ “خسرويْ”. وهناك ننتظر، حتى تأتينا حافلات إيرانية تُقلنا يوماً كاملاً إلى “المعصومة/ قم”.
وبعد الراحة ننتقل عبر حافلات إلى طهران التي كنا نعرفها باسم “شاه عبدالعظيم”. ثم ننطلق منها إلى مشهد، في رحلة يوم كاملٍ حتى نصل إلى مشهد/ خراسان/ طوس/ أبو محمد.
وقد زرتُ إيران مرّتين، الأولى عام 1978 قبل الثورة، والأخرى عام 1980 بعد الثورة. والأجيال الذين سبقونا لهم قصصٌ أسطورية عن رحلة السفر الشاقّ إلى “أبو محمد”، عبر الدّواب، عابرين البراري والجبال من أجل زيارة ضريح الإمام الرضا.
في زيارة إيران الأولى كنت ابن أقل من 10 سنوات. أقمنا في “قُمْ” ثلاثة أيام فحسب. ثم سافرنا في حافلة، عبر الجبال، نحو “مشهد”. وأقمنا فيها قرابة 40 يوماً، منذ أواخر شعبان حتى 5 شوال..!
زيارة الأشهر الثلاثة
قبل أن تنتظم حياة السعوديين؛ بالتزامات الدراسة والوظائف؛ كان السفر يمتدّ إلى ثلاثة أشهر، تتوزّع على العراق وسوريا وإيران. تبدأ الرحلة الطويلة بكربلاء العراق التي يتمركز “الزُّوار” فيها، ومنها ينطلقون إلى “مزارات” المدن العراقية: النجف، الكوفة، كاظمية بغداد، سامرّاء. وثمة مزارات أخرى لا أتذكر منها إلا الحلة.
هذا النوع من الحافلات هو المتاح في العراق في السبعينيات والثمانينيات
بعد العراق يشدُّون رحالهم نحو “قبر الست” في ضاحية دمشق، عابرين الغرب العراقي ومنفذ “الرُّطبة” و “باب أبو الشامات”. وتستغرق الرحلة يوماً كاملاً بالحافلة. وبعد إقامة أيام؛ يقفلون عائدين إلى كربلاء مجدداً ليستريحوا أياماً، أو أسابيع.
بعد ذلك تبدأ رحلة إيران الشاقّة الطويلة المعقّدة. هي رحلة تبدأ من جنوب العراق وتنتهي في أقصى شرق إيران، متوقفة في 6 نقاط، تتبدّل في كلّ منها وسيلة النقل. لكنّ الناس يخوضون المغامرة، يُقدمون على الصعاب.
عام 1978؛ لم تكن العلاقات العراقية السورية طيبة، لذلك لم نسافر إلى زيارة السيدة زينب في دمشق.. سافرنا إلى إيران. واستقرّ بنا المقام في مشهد الباردة (قياساً بلاهوب الساحل الشرقي السعودي). ولأنني لم أبلغ العاشرة؛ فإنني ـ وشقيقتي الصغرى فاطمة ـ لم نكن نصوم..!
كنا نتغدى بما تبقى من سحور الليلة الماضية. أو نشتري نصف رغيف بـ 5 قران، و “سطَل” روب صغير جداً. الخُبز الإيراني يُشبه الخبز الأفغاني الطويل، وقد يُباع أنصافاً أيضاً..!
مشهد مدينة جميلة، كبيرة، حيّة بحرفها ونشاط البشر فيها، ومزاجها الروحاني ظاهرٌ جداً، على نحو ـ ربما ـ يفوق المزاج المشابه في المدن العراقية. فيما أذكر؛ فإن شوارعها الصغيرة المحاذية للحرم الرضَوي كأنها شوارع كربلاء تحديداً. عربات الفاكهة بعنبها وتينها تتشابه. حتى التوت الأخضر الإيراني يُشبه التوت العراقيّ. سُكّري جديداً، ويذوب في الحرارة كما الثلج..!
في أيام العيد؛ ذهبنا إلى حديقة حيوانات في مشهد. إنها المرة الأولى التي أرى فيها فيلاً حقيقياً. إحدى جاراتنا ـ في العوامية ـ التقطت صورة “فورية” مع أطفالها فوق ظهر الفيل. أتذكر أن نساء “الحملة” عِبْنَ عليها ذلك..!
بعد الثورة
نجحت الثورة في إيران في 1979، وتحوّل نظام الحكم فيها من “شاهيٍّ” إلى “جمهوري”. ثم اشتعلت الحرب مع العراق. تعقّدت علاقة “الجمهورية” مع دول الجوار في الخليج. اختلط السياسي بالقوميّ والمذهبي والعسكري والأمنيّ، بين ضفتيْ الخليج.
بات السفر إلى إيران شبهة أمنية خطيرة، قد تكون على صلة بحركة المعارضة “الشيعية” التي مدّت طهران يد المساندة إليها في البداية..!
مُنع السعوديون ـ رسمياً ـ من السفر إلى إيران..! ولم يعد السفر إلى العراق ممكناً؛ جرّاء الحرب..!
لم يُطلّ عام 1983 حتى شُطبت: كربلاء، النجف، الكوفة، الكاظمية، سامرّاء، وسائر مدن العراق من وجهات “الزّيارة”. ومعها “مشهد” و “قُم” و “شاه عبدالعظيم”.
انحصرت الخيارات “الخارجية” كلها في بلدة صغيرة من بلدات ضاحية دمشق السورية. في شتاء عام 1980 سافرنا إلى “قبر الستّ”. ثم سافرتُ إليها في 1987. وخلال السنوات السبع؛ تحوّلت البلدة الصغيرة إلى أهمّ موقع “سياحي” سوريّ بالنسبة لشيعة البلاد الخليجية..!
طيلة عقد الثمانينيات؛ كان الزّوار الشيعة يقصدون “قبر الست” لزيارة ضريح السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب. والمهم ـ في قصّتي ـ هو أن “قبر الست” أصبح الوجهة الخارجية الوحيدة لـ “السياحة الدينية” لدى الشيعة. وبدقة أكثر انتباهاً للحساسيات؛ لم يعد لديهم ـ وقتها ـ إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق..!
فرضت الأوضاع السياسية والأمنية عليهم مُحاذَرةَ التبعات. إلا أن منهم من تجاسَر على المخالفة. ثمة من لا يصبر على ألا يزور الحسين بالذات، كلّما وجد سبيلاً إلى ذلك، ولو بالمخاطرة..!
كثيرون أولئك الذين سافروا إلى العراق أثناء حربها مع إيران. وأكثر منهم سافروا في سنوات الحصار. وأكثر منهم من سافروا بعد عام 2003.
الأمير نايف، رحمه الله، مصافحاً الرئيس خاتمي، وعن يسار الصورة يظهر الدكتور الجشي
علاقات حسنة
ثم تحسّنت العلاقات بين الرياض وطهران في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. عادت السفارتان مُجدداً. وبلغت النية السعودية مبلغها في مصافحة الإيرانيين، فاختارت الرياض مواطناً سعودياً شيعياً ومن قلب مدينة القطيف، ليكون أحد سفرائها في طهران.. الدكتور جميل الجشي..!
الدكتور الجشي من الرجال الذي كان على صلة بالدكتور غازي القصيبي منذ وزارة الصناعة والكهرباء، ووزارة الصحة. وهو إداريٌّ مخضرم، وشغل ـ لاحقاً ـ عضويةً في مجلس الشورى. وكان تعيينه سفيراً في طهران ذا رمزية واضحة جداً.
لكنّ الأهم ـ في قصتي ـ هو أن الشيعة وجدوا في تطييب العلاقة بين بلادهم وبين إيران فرجاً متعدد الأبعاد. بإمكانهم زيارة ضريح إمامهم الثامن براحة ودون مساءلات. وبإمكان بعضهم الانخراط من حوزة قُمّ للدراسة بعيداً عن صداع السياسة..!
الحوزة القُمّية هي المتاحة ـ علمياً ـ بعد محاصرة حوزة النجف مخابراتياً وأمنيّاً منذ 1979. وهي الأفضل استقراراً، والأكثر استقلالاً عن السياسة ونأياً بجانب حلقاتها عنها. الشأن العلميّ في الحوزة لا علاقة له بالشأن السياسيّ، على نحوٍ لا يفهمه كثيرٌ من الناس..!
ثمة خطوط عريضة تُفرّق بين “حكومة إيران” وبين “حوزة قُم”، في مقدّمتها عقدة “ولاية الفقيه”، و “التعامل مع السلطان”، ومعضلة “الأعلمية”، وتعقيدات مُتكاثرة تفصل بين ما هو “حكومي” وما هو “علميّ”. لكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وكثيراً منهم لا يفهمون، وبعضهم لا يريدون أن يعلموا ليفهموا..!
والمهم، هو أن تحسن العلاقات السعودية الإيرانية؛ أعاد إلى “مشهد” حصة “سياحية” مهمة. وسجّل السعوديون الشيعة لأنفسهم حضوراً كثيفاً فيها. الأمر الذي دعا الخارجية السعودية إلى افتتاح قنصلية في المدينة البعيدة، لرعاية شؤون المواطنين. وهذه لفتة إضافية تُضاف إلى النية السعودية إزاء مواطنيها الشيعة من جهة، وإزاء الجمهورية الإسلامية من جهة.
عادت المياه “السياحية” إلى قنواتٍ جديدة، وتأسّست مكاتب سياحة، وفنادق، وخدمات، على نحو فاق ذلك المستوى الذي عشناه في سبعينيات القرن الماضي. مستوى “الخانات” و الحافلات المتهالكة، والسفر الطويل الخطر..!
رفسنجاني في فدك
واقع الأمر هو أن النيات السعودية ذهبت إلى أبعد من هذا المستوى من الطيب، ولبّت طلباً للراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني لزيارة “فدك”، بما يدلُّ عليه الطلب من حساسية شديدة في العلاقة الشيعية السنية مذهبياً، وعلى خلفية خلاف تاريخي بين السيدة فاطمة وبين الخليفة أبي بكر.
زار رفنسجاني “فدك”؛ برعاية سعودية رسمية، وبحماية أمنية أيضاً، وباحترام لما تنطوي عليه عقيدته إزاء هذا الموقع الحساس “مذهبياً”.
الصلبُوخ…!
تقول رواية شعبية إن أسرة “الصلبوخ” الموجودة في أكثر من قرية قطيفية؛ حصلت على اسمها من مولودٍ لها، في قصة غريبة التفاصيل.
في رحلة طويلة لزيارة “أبو محمد/ مشهد”؛ وضعت “زائرة” حملها توأماً. وكان محالاً عليها أن تحمل الصغيرين معاً في رحلةٍ شاقّةٍ عمادها الدواب والرواحل. كان من شأن ذلك أن تتعطّل القافلة كلها في سفرها الصعب.
انتهت الحيرة الموجعة إلى خيار واحد؛ هو ترك المولود الهزيل لمصيره في مكان ولادته، واصطحاب الآخر لأن عافيته كانت واضحة. وهذا ما تم.
تركت القافلة المولود الهزيل، وواصلت رحلتها. لكن الأم فقدت طفلها الذي صحبته على ما بذلته من عناية.
وفي طريق العودة؛ أصرّت الأم على المرور بالمكان الذي تركت فيه مولودها الآخر. وهنا كانت المفاجأة. وجدوا الصغير حياً سليماً. ووجدوا في يده قطعةً من حجر أملس “صلبُوخ” يمصّه.
أخذته الأمّ، وعاش، وكبُر، وشبّ، وأطلقوا عليه اسم “الصلبوخ”، وحملت ذريته الاسم من بعده.
تنبيه:
لا أسرد القصة على أنها حقيقية، بل لأنها من الحكايات الشعبية. وأظنّ أن في ثقافات الشعوب بعضاً من القصص المشابهة. والقصة غير مرتبطة بالأسرة المعروفة حالياً في القطيف.