كلمة معروف في رقابة المسؤولين على الإعلام
حبيب محمود
أعرف إعلام وطني منذ سنة 1993م، ومنذ بداية الركض وملاحقة الأخبار؛ لم أعرف آلية رقابية على ما يُنشر غير ما هو موجود في المؤسسة الصحافية وحدها، ويقف رئيس التحرير على وضع تفاصيلها، وتوزيع صلاحياتها.
الرقابة في المؤسسات الصحافية السعودية “ذاتية”، ويستند رئيس التحرير وفريق مساعديه في “إجازة نشر” أي موضوع أو استبعاده، إلى فهمهم للأنظمة والقوانين، وتقديرهم للأبعاد السياسية والاجتماعية والأمنية. وعلى القرار الذي يتخذه رئيس التحرير ـ أو من يقوم مقامه ـ تكون المسؤولية القانونية.
عملتُ في ثلاث مؤسسة صحافية: اليوم، الوطن، الشرق. وأكثر من موقع في إعلام الشركات.
لأكثر من 30 سنة؛ لم أجد في أيّ منها آلية تطلب إطلاع أي جهة على المادة قبل النشر بتاتاً. نذهب إلى تغطياتنا ونرصد الأحداث وندون المعلومات ونحرر المواد، ثم نسلّمها إلى المسؤول في الصحيفة. وهو بدوره يقرّر مصير المادة، نشراً، أو تحريراً، أو استبعاداً. ويصدر قرار المسؤول استناداً إلى مسؤولياته، وليس امتثالاً لأمر جهة أو طلبها، أو أي نوع من أنواع التحكم الإجرائي.
وبعد سنوات من تأسيس “صُبرة”؛ راحت تتكشف لي “غرائب” في بعض الأجهزة الحكومية “التنفيذية”، وبعض المؤسسات الأهلية أيضاً. بعضهم يدعو الصحيفة إلى تغطية فعالية ما، ثم يطلب من الزميل المكلف بالتغطية الاطلاع على المادة بعد تحريرها وقبل نشرها..!
وبعضهم يعترض على نشر مادةٍ ما قبل أخذ “الإذن” منه..!
مثل هذه الأجهزة؛ تمارس “سلطة رقابة” غير موجودة في أي نظام وطني. ليس في أي نظام سعودي أي مادة أو حتى عبارة واحدة تمنح أيّ مسؤول تنفيذي حق “الرقابة” على ما تنشره وسائل الإعلام. الحقّ المعمول به لأي مسؤول هو حق الردّ على ما يُنشر، وحق الإجابة على أسئلة وسائل الإعلام.
ثم تتولّى وسيلة الإعلام النشر متحمّلة مسؤوليتها القانونية، في الطريقة التي تنشر بها المادة، دون أن يكون عليها عرض المادة على المسؤول قبل النشر.
ينسحب ذلك على التغطيات والأخبار والتحقيقات والتقارير والصور والفيديوهات، وكل ما يصل إلى “النشر”.
من حق المسؤول أن يضع الترتيبات الإجرائية لمن يُصرّح داخل جهازه لوسائل الإعلام، وهذا طبيعي جداً، لأنه يمارس صلاحياته دخل الجهاز الذي يُديره.
ووسيلة الإعلام تتحمّل مسؤولياتها فيما تنشره.
ولو سُئلتُ: هل يوجد في الإعلام السعودي حرية..؟ فلن أتأخر في الإجابة بأن الحرية في الإعلام السعودي موجودة. وهناك إيضاحٌ لا بدّ لي من إضافته إلى الإجابة، بوضع توصيف دقيق لهذه الحرية. هذا التوصيف هو أنها “حرية منضبطة” وتحترم حتى حق “المجرم”؛ فلا يجوز ذكر اسمه أو نشر صورته إلا بموجب حكم قضائي يتضمن “التشهير”.
الحرية المنضبطة قائمة على الحقوق والواجبات المرتَّبة في التشريعات الوطنية المعلنة، ودوائر الاختصاص النوعي، والآليات التي يجب أن تكون معروفة ومفهومة لدى كلّ ناشر، من أجل أن يعمل في الضوء، متحمّلاً مسؤوليته تجاه وطنه ومجتمعه.
الإعلام شريكٌ وطني مهمٌّ منذ أن نشأ، ودوره أن يكون أميناً وصادقاً مع الناس والمسؤولين. وقد يغضب مسؤولٌ من خبر أو تحقيق، كما قد يغضب الناس من مادة. وليس غضب المسؤول أو الناس هو ما يُمكن أن يُحاسب عليه الناشر. إن ما يحاسَب عليه هو الكذب والتزوير والإساءة التي تمسُّ الأمن الوطني أو الاجتماعي، أو تجور على قيمة أخلاقية أو دينية، أو اعتبارات لها أصلٌ في التشريعات الوطنية.
أتذكّر موقفين حقيقيين كنتُ شاهداً عليهما بنفسي:
الأول في مكتب سموّ أمير الشرقية الأمير سعود بن نايف؛ عام 2016؛ (أو 2017) في لقاءٍ كنت فيه ثالث ثلاثة مع الزميلين رئيس تحرير “الشرق” خالد بو علي، ونائبه محمد الشمري.. في ذلك اللقاء؛ أراد سموّه توجيه رسالة لنا؛ متحفظاً على نشر صور جثث في الصحيفة.
وقال سموّه ما معناه “لست من يفرض عليكم ما تنشرون وما لا تنشرون.. بل أحدثكم كمواطن مثلكم، فنشر مثل هذه الصور يؤذي ذوي المتوفين”.
الثاني في مكتب سمو نائبه الأمير أحمد بن فهد بن سلمان عام 2021، ضمن فريق “صُبرة”.. فخلال ساعة ونصف من ذلك اللقاء؛ لم تتكرر كلمة على لسان سموه أكثر من كلمة “كونوا صوت المواطن”.
كلمة أخيرة:
خلال السنوات الثلاثين التي أمضيتها في بلاط الصحافة؛ شاركتُ في الكثير من التغطيات الرسمية؛ من أعلى مستوى ملكي في بلادنا، إلى أصغر مؤسسة رسمية.. ولم يحدث يوماً أن طلب مسؤول من أي جهاز الاطلاع على مادة قبل نشرها.