الأم المكافحة
عبد الله حسين اليوسف
كانت أسرة تعيش في رغد من العيش. الأب تاجر معروف بالأمانة والصدق ومحبوب في قريته ويقدم لهم تجارة في المواد الأساسية (الرز، السكر، الملح، الشاي،القهوة، الطحين)، يقدمها إلى أهل القرية بسعر مناسب، ويساعد الفقراء والأيتام ويقدم لهم خصما خاصا، وينسق مع إمام المسجد في تغطية التكاليف من أهل الخير.
وكان يوظف معه من أهل القرية، ويدرب بعض من لديه قدرة على فتح محل تجارة لتقديم الخدمات إلى أهل القرية، وكان يعبر عن الرجل التاجر (العقيد) وهو يمثل إصلاح ذات البين ويدخل في حل المشاكل العائلية والخلافات بين الأفراد والمزارعين والأعمال الأخرى.
لقد كان متزوج من امرأة من ذات نسب وحسب وقوة شخصية معلمة القرآن الكريم، لديها خبرة في الطبخ، في إعداد الوجبات الكبيرة في المناسبات الدينية والاجتماعية، وأنجبت له أولاد وبنات،
لقد كانت تساعد زوجها في حل المشاكل، وتذهب للنساء لحل مشكلاتهن المالية.
كانت حياة العقيد وزوجته مثالا يحتذى به في القرية ورمزا وقوة والكل يدعو لهما بالخير، ولكن الحياة لا تصفو أو تدوم طويلا، لقد مرض العقيد فجأة حيث كان منتشر (حمى الوادي المتصدع ) في القرى الأخرى وانتقل إلى القرية عن طريق أحد رعاة الغنم، فحزن عليه أهل القرية، وبعد عدة أيام جاء دور الأم المكافحة حيث جاءها إمام الجامع وبعض وجهاء القرية وقال: كيف تتصرفين في المتجر ولا يوجد أخوة لك؟
حيث أنها وحيدة الأم والأب، ووالديها كبار سن وانتقلوا للعيش في قرية أخرى حيث يملكون مزرعة صغيرة.
قررت الأم المكافحة أن تختار من العمال الذين يعملون في المتجر ووقعت معه اتفاقية بحضور إمام الجامع وبعض وجهاء القرية على أن يدير المحل بنسبة معينة ويسير على نهج زوجها في البيع والشراء وأن يعطيها تقريراً شهريا.
وربت أبناءها على العفة والتعليم حتى إنها لم تغير سيرتها ومنهجها من تعليم القرأن الكريم وتجهيز الوجبات للولائم والمناسبات.
وزوجت أبنائها وبناتها بعد أن اكسبتهم العلم والمعرفة والخبرة وكان أهل القرية يتشرفون بالانتساب والتقارب معها، وأخذ العمر والسنين منها وأصبحت كبيرة السن وأخذت تسير في القرية وسط موكب من حفدتها، وكانت تسافر لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين ويرافقها كل سنة من البنات والأولاد، ويرتب لها مع أفضل حملة للسفر، فكانت إذا سافرت تأخذ معها المال والهدايا، وتسير في موكب إلى الزيارة ويحيطها طوق من الأحفاد وحيث تقوم في خدمة من يرافقها في الحملة بالتعليم والتوعية الدينية والأخلاقية.
استغرب مالك الفندق الذي تسكن فيه الحملة من هذه المرأة الفاضلة فقال لصاحب الحملة أريد معلومات عنها. فقال له: لها سيرة عطرة. وبعد أن سمع حكايتها طلب أن يعرض عليها شراء الفندق أو تملك عقار لخدمة الزوار. فقالت: أريد شراء فندق وتخصيص غرف لنا وجناح خاص لي وأسرتي وجزءاً من إيرادات الفندق إلى أوجه الخير.
وكان محل التجارة التي تركه زوجها يسير بشكل أفضل بعد أن تخرج أحد ابناءها من الجامعة في تخصص التجارة. وتم تنظيم المتجر إلى أسهم وحصص لكل فرد من الورثة حسب الشرع.
وبعد هذه السيرة العطرة عن الأم المكافحة التي يسميها كل أفراد القرية العقيدة التي ورثت المال والوجاهة وكانت لا تدخل بيتا فيه مشكلة اجتماعية إلا وتخرج منه بالصلح، حيث لا تنظر إلى أحد منهم إلا أنزل رأسه احتراما لها والكل يريد خدمتها والتقرب منها وسميت الأم الفاضلة وهي بركة القرية.
ولما عصفت الأمطار الغزيرة وجرفت بعض البيوت، هدمت جزءا من المسجد فقالت إلى أبنائها: عليكم تنظيم الأمر وحصر الأضرار وتقديم المساعدة، والاجتماع مع إمام الجامع والوجهاء في القرية.
لكن بعد هذا المشوار في الحياة جاء المرض وكبر السن الذي لا مفر منه، رحلت إلى ربها وهي من تقوم بشؤونها تأكل من يدها وتغسل ملابسها وتحاول أن لا تنادي على أحد لمساعدتها ولم تخرج من غرفتها لمدة ثلاث شهور إلا بعد أن فارقت حياتها الدنيا وعمل لها تشييع مهيب وعزاء حضره أهل القرية رجال ونساء،
وبعد ان اوصت وقسمت الورث بينهم وطلبت من ابنها وبناتها أن لا يكون إلا على سيرة عطرة حتى إذا رأوهم و تعاملوا معهم يترحمون على من رباهم ويكون ذكرى عطرة وصدقة جارية.
رحم الله الأم المكافحة في كل مجتمع والأب رحيم يعطي من جهده ووقته لسعادة ابنائها ويقدم نماذج يحتذى على مدى الأيام والعصور.