[ذاكرة] إمساك لحية عامل سعودي يكلّف أمريكياً وظيفته وإقامته في المملكة محامٍ أمريكي يوثق واقع القضاء السعودي في ستينيات القرن الماضي ويقارنه بالقانون الأمريكي
شرطي سعودي يفضّل سجن 6 أشهر و 80 جلدة على القسَم كذباً
القطيف: صُبرة
حين خيّرَ القاضي شرطيّاً متّهما بين أن يُقسم بالله على براءته وبين أن يدخل السجن ويحصل على الجلد؛ قرّر الأخير دخول السجن. تبدو القصة مألوفة عند السعوديين، خاصة في أجيالٍ سابقة. لكنها من زاوية قانونيٍّ غربيٍّ بدتْ مدعاة للغرابة، من جهتين: كونها إجراءً قضائياً، وحرص الشرطيِّ على ألّا يُقسم بالله كذباً.
العقل الغربيّ يميل إلى السخرية من هذا الإجراء القضائي الذي تعمل به المحاكم في السعودية. هل يتردد رجل يواجه حكماً مالياً أو ربما سجناً في الكذب عندما تكون تلك الكذبة قادرة على تخليصه..؟
هكذا تساءل المحامي الأمريكي جورج م. بارودي وهو يوثّق تجربته مع القضاء السعودي في ستينيات القرن الماضي. وقد أجاب بنفسه عن التساؤل؛ مندهشاً من فاعلية الإجراء في المحاكم الشرعية السعودية، حين لاحظ أن المتَّهمين المذنبين يفضلون الإدانة والعقوبة على أن يُقسموا بالله كذباً.
القضاء الشرعي
بارودي أعدّ تقريراً استقصائياً ونشره في مجلة “عالم أرامكو”، سنة 1966م، تحت عنوان “القانون الشرعي في الإسلام”، واضعاً مقارنات كثيرة بينه وبين القانون الأمريكي، مستشهداً بقضايا خاضها، أو اطّلع عليها. كثيرٌ من القضايا كانت مثار استغراب المحامين الغربيين الذين وجدوا نظاماً “استثنائياً”.
الاعتداء الشخصي
كانت المفارقة واضحة بين خبرات المحامين الغربيين وبين القضاء السعودي. في الولايات المتحدة، نادرًا ما يُعتبر الاعتداء الشخصي مهمًا بما يكفي لاستحقاق شكوى رسمية، وإذا رُفعت قضية فسوف تنظرها محكمة صغيرة. لكن في المملكة العربية السعودية تعامل قضايا “الاعتداء الشخصي” على أنها مسائل خطيرة. وغالباً ما تنبع حالات الاعتداء الشخصي من كبرياء العرب السعوديين، وهو فخر مفهومة تماماً للرجال الذين عاشوا على مدى قرون بشجاعة وعزيمة شديدين في واحدة من أكثر الصحارى المعادية في العالم. هذا الفخر هو شيء ثمين، وسيذهب السعوديون إلى أقصى الحدود لحمايته.
لحية سعودي
في واحدةٍ من القضايا؛ خسر أمريكيٌّ وظيفته ورُحِّل إلى بلاده، لأنه مازح سعودياً بسحب لحيته. استاء الأخير من الإهانة، وجلب الأمريكي للمحاكمة. اختلاف الثقافات ولّد منازعات قضائية. بعد الحرب العالمية الثانية استخدمت أرامكو حوالي 8000 أجنبي، وأكثر من 16،000 سعودي. هذه المجموعات المتنوعة من الناس بطبيعة الحال لم تكن مألوفة مع عادات بعضهم بعضاً. كان سوء الفهم شائعاً، وانتهى الأمر بالعديد من الشكاوى في المحاكم.
وموضوع “القسَم” الذي أدهشه؛ استفاد منه المحامي بارودي شخصياً في دعوى تولّاها محامياً لصالح أمريكي يعمل في أرامكو ضدّ شرطيّ سعودي.
في إحدى الليالي، وأثناء دورية اعتيادية في سكن في الظهران؛ دخل أحد رجال الشرطة إلى غرفة يسكنها ثلاثة من الأجانب واتهمهم بالمقامرة. هرب اثنان خوفاً، ويبدو أن الشرطي ضرب أحدهم على رأسه بمقبض مدبب حاد في نهاية عصا. تسببت الضربة في شجّ رأس المضروب. والشاهدان الوحيدان الهاربان خافا من الشهادة ضد شرطي، ورفضا حتى تحديد هويته. لكن هوية الشرطي عُرفت من خلال وسائل أخرى، ورفع المحامي دعوى ضده في محكمة الظهران. وقرر القاضي النظر في القضية.
وفي المحاكمة، زعم المدعى عليه “الشرطي” بأن الإصابة نجمت عن اصطدام رأس المدعي بمقبض باب الغرفة أثناء محاولته الفرار. ولمواجهة ذلك، أحضر المحامي أشعة إكس المأخوذة لجمجمة الضحية والمعدات المناسبة لعرضها، إلى جانب طبيب مؤهل يتحدث اللغة العربية لشرح لوحاته. وفي المرافعة حاول المحامي أن يثبت أن نوع الجرح الذي وقع في رأس المدعي لا يمكن أن يكون ناجمًا عن السطح الكروي لمقبض الباب. لقد كان طلبًا غير عادي لأن هذه الأدلة العلمية لم تكن معروفة للقاضي، في ذلك الوقت.
دليل الأشعة
اطلع القاضي على الأشعة السينية، وبعد الاستماع إلى شرح الطبيب العربي، قرر رئيس القضاة أن الجرح على شكل إسفين في جمجمة المدعي، ولا يمكن أن يكون ناجمًا عن سطح دائرية من مقبض الباب، ولكن على الأرجح بسبب نهاية مدببة لعصا كان يحملها المدعى عليه.
الشرطي أنكر ضرب المدّعي. ومع تعذُّر موافقة رفيقيْ المضروب على الشهادة؛ لجأ المحامي بارودي إلى إجراء “القسم”، أي استخدام القاعدة القضائية المعروفة في الشريعة الإسلامي “على المدعي البينة وعلى المُنكر اليمين”. وهذا الإجراء لا يمكن قبوله في المحاكم الأمريكية، لكنه فاعلٌ ومعمول به في المحاكم السعودية.
رجل الشرطة المُدّعى عليه غضب، وحاول الدفاع عن نفسه بأن المدِّعي ومحاميه مسيحيون، وليس لديهم الحق في مطالبة اليمين من مسلم. لكن القاضي ردّ عليه بأن هذا ليس صحيحاً. “فقد يطلب المدعي اليمين ويطلب القسم وعليك أن تقرر ما إذا كنت ستأخذه”.
الشرطي في موقف لا يُحسد عليه. إذا لم يؤدّ اليمين، فستتم إدانته، وقد يُحكم عليه بالسجن ستة أشهر. حتى أنه قد يتم جلده. لكن البديل الوحيد كان بغيضًا بنفس القدر: الكذب تحت القسم. وقد أدرك القاضي هذا الأمر، فألقى محاضرة للشرطي على جدية المعضلة، وأرجأ المحاكمة لمنحه الوقت الكافي للتفكير فيها.
في اليوم التالي طلب القاضي من المدعى عليه أداء اليمين، بحضور شاهدين من مكتب الإمارة. رفض المدعى عليه، بعد طلب القاضي منه ثلاث مرات. برّر الشرطي موقفه بأنه لا يستطيع أن ينتهك معتقده الديني. لا يستطيع الكذب. عندئذ؛ حكم القاضي على الشرطي بارتكاب الاعتداء.
تعويض 300 ريال
وتضمن الحكم تشكيل لجنة من الخبراء الطبيين من قبل القاضي، لتقييم مدى الضرر الذي تعرض له المدعي. وبناءً على تقييمهم، تم تحديد التعويض المالي، وقد بلغ 300 ريال سعودي (67.00 دولار). وهو مبلغ كبير في المملكة العربية السعودية في بداية ستينيات القرن الماضي. وعلى إثر ذلك أمر أمير المنطقة الشرقية بتنفيذ حكم الشرطي بموجب الحق العام، السجن ستة أشهر و 80 جلدة.
عذاب الضمير
بارودي علّق على القضية وعلى الأجراء بقوله “تساءلت عن ذلك في المرة الأولى التي رأيت فيها المدعى عليه يؤدي اليمين بعد أن طلب موكلي ذلك. وفي وقت لاحق ناقشت ذلك مع قاضي. وقال القاضي “لا أنت ولا أنا نعرف ما إذا كان المدعى عليه قد ارتكب الجريمة أم لا”. واضاف “لكن المتهم يعلم، وإذا كذب تحت القسَم فسوف يؤنبه ضميره لبقية حياته.”
(المصدر: مجلة “عالم أرامكو”، الترجمة اقتصرت على جزء من تقرير مطوّل)
الشيخ عثمان الحقيل رئيس قضاة المنطقة الشرقية وقتها ورد اسمه كثيراً في التقرير
قاعة المحكمة كما كانت في ستينيات القرن الماضي
يجلس المتقاضيان جنباً إلى جنب في القضاء السعودي