حُبٌّ مكلوم في عدسة الموت قصة فوتوغرافية من ريف جورجيا سردها باسم القاسم
قراءة: ريم حبيب
في صورة “أثر الفقد” التي عرضها الفوتوغرافي باسم القاسم في معرض “أثر” قبل أيام؛ قصّة عمرها 5 سنوات، ليس من الزمن فحسب، بل من الموت الذي فرّق بين زوجين عاشا ستة عقود معاً.
“صُبرة”؛ ناقشت المصور، واستطلعت مشروع الصور بتفاصيله الفوتوغرافية، وخرجت بهذه القراءة.
“أثر الفقد” الصورة المعروضة في معرض “أثر” مؤخراً
باحثان عن وجوه
في 2019؛ كان باسم القاسم وزوجته رفيقيْ سياحة وفوتوغرافيا في جمهورية جورجيا.. البلاد الواقعة في شرق أوروبّا، الوارثة مزيجاً من ثقافات متجاذبة، ما بين العُمق الأوروبي، والحس الإسلامي الذي تركه الإرث العثماني، وكذلك العهد السوفياتي بتاريخه المصطفّ يساراً وشيوعيةً واشتراكية، طيلة عقود الحرب الباردة.
بلاد خضراء، انفتحت على السياحة أكثر في الزمن الرأسمالي. تسكنها وجوه ذات ملامح لا يفوّتها حاملُ كاميرا، بل يبحث عنها على الأقلّ في صُدف حياة الشارع. لكن باسم القاسم وزوجته كانا يبحثان عن أكثر مما يُلاحظُ في الأسواق والحدائق ومواقع السياحة.. قادهما البحث إلى مزرعة “جمال” و “أمينة”..!
الصورة رقم 1
الحبّ في الشيخوخة
بيت صغير، زوجان متحابان، وفي وجهيهما النموذج المكتمل لـ “الإِلْف” الضارب في السنوات الطويلة.. إلفٌ في أنقى المشاعر وأصفاها. مُسنّان تجعّدت السنوات على وجهيهما، وتكفّلت التجارب بينهما بتعميق ما لا يراه مُصوّر ولا رسّام ولا شاعر، إلا حين يُحسُّ بما هو أشدُّ تأثيراً وانجذاباً..
شعر “باسم” بقرابة تشده إلى هذا البيت، إلى هذين الزوجين، قد تكون قرابة الفن، فالكاميرا توطد العلاقات، ولا توثقها فحسب، هناك مسافات من الضوء واللون، وحجم الصورة، وملامح الشخوص وحركتها.
كل هذا يضع المصور في حالة وجدانية، لا يستطيع بعد ذلك أن ينكر صلته بما تلتقط عيناه، ليصنع عالماً غنياً باللحظات المرهفة دون ازدحام بالأحداث الخارجية.
الصورة رقم 2
جمّد المصور القادم من شرق السعودية، وقته من أجل التفرُّغ لهذا الشغف العتيق في حياة الزوجين المسنّين.. لقطة تلو لقطة، مشهد تلو مشهد. كأن الصور المتلاحقة في حالة سينمائية، وكأن جمالاً وأمينة يتحركان بشكل تمثيلي.
الصورة رقم 1 أبرزت رجلاً مُسنّاً يقف في الضوء، فهو لم يكن يريد أن يتصور لكن إلحاح أمينة جعله يذعن لرغبتها. وما إن اقترب منها حتى راحت يديها تلملمان تفاصيل كثيرة. ولم يغفل المصور عن حركة يدي أمينة اللتين امتدتا لتعتنيا بهندام زوجها في وضعيات مختلفة، فهي ترى فيه طفلها الصغير.
ظهر ذلك في طيبة النظرة المترقرقة في عينيها، إنها رفيقة رحلة العمر، بدا واضحاً من ملامحهما التي أظهرتهما متقاربين في السن وهما على أبواب الثمانين. في نظرتها امرأة وفية أمينة.. أصابع يديها تمتد بحنو وكأنها تلمس جراح العمر وتبلسمها. هناك تسلل ابتسامة إلى وجه الزوج كما الضوء، كأنما ينهض من تحت أنقاض وجع، إنها تريده قوياً، ينبض بالحياة، إنه السند والأمان.
وذلك ظهر جلياً في الصورة رقم 4 ابتسم جمال لحركة يد زوجته.. الحبيبة.
جلسة التصوير الشغوفة انتهت، عاد القاسم وزوجته بحصيلة قصة حب وحياة، هذه الصور وصور أخرى مماثلة استبقته موصولاً مع حكايات كثيرة. وقد تجلى وفاء المصور لها في عرضه إياها في معارض كثيرة.
تفاعل الناس بصور القاسم في وسائل التواصل الاجتماعي. لكنّ مفاجأة حزينة داهمته عبر تعليقات متابعين على الصورة. صورة “جمال” و “أمينة”.. جمال فارق الحياة وفارق أمينة.
تفكّر في الأمر، ربما يستطيع أن يعيد لأمينة مشاعر كبيرة وأن يجمعها بجمال مرة أخرى. تلك المرأة لا محالة في حاجة ملحة إلى ذكرى، تخفّف نار الفقد المتولدة من أعماقها.
بعد خمس سنوات من اللقاء الأول بالزوجين، حزم القاسم وزوجته حقائبهما وطارا إلى جورجيا باندفاع الملهوف وبتوقد إحساس الفنان، ليجد أمينة كما رسمتها الصورة رقم 5 تحمل عكازاً ترمي عليه تثاقل جسدها المرهق، في فراغ عاصف يلتف من حولها.
الحزن الإضافي هو أن “أمينة” لم تكن الثاكلة الوحيدة في اللقاء الجديد.. هناك سيدة أصغر منها سناً كانت في منزلها. إنها الاسم نفسه “أمينة”.. والأمينتان يسربلهما السواد ونظرة حزن وفقد، فتحولت ملامحهما التي شفت عن ظل باهت خفيف يوازي صيغة الغياب التي تعيشها كلتا الأمينتين، وكأنهما تماهتا وتناسختا في جسد واحد وفي نظرة واحدة، الأولى فقدت الزوج والأفف، وأمينة الأم فقدت ابنها.
وما إن رأت أمينة صورتها مع جمال، حتى بدت الصورة وكأنها طريقة جديدة للتواصل.. سحابة سحرية تعيد الزمن إلى الوراء، تعيد إليها عقوداً ستة عاشاها معا . وهذا هو ما يظهر في الصورة الأخيرة.. أمينة تحمل صورتها مع زوجها الراحل، تنظر إلى البعيد وكأنما تقتفي أثراً ضائعاً.
كأنها تسبح نحو فضاء داخلي تبحث فيه عن زوجها وعن نفسها، فتنتفض نظرة عينها مثلما ينتفض عصفور بلله المطر، ويتفتت رذاذ ابتسامة فوق شفتيها، وتشرع ملامحها في الإذعان وهي تسترجع زمناً بعيداً بلون الشوق والحرمان، وتلقى زوجها في كل مكان حولها، فحيثما ينحسر الزمن تلوح لنا الذكريات، وصورة واحدة تحمل ألف وجه للذكرى.