عبدالخالق] وترجل الفارس النحرير
د. محمد حميد السلمان
كيف أبدأ بالحديث عن أخ وصديق عزيز قد رحل عنا للتو، ومع صعوبة العثور على كلمات مناسبة لهذا الحدث الجلل سوى الرثاء؛ سأقف فقط مع بعض محطات مرت في حياة كلانا سوياً.
أولها: تعرفتُ على أبا طاهر، عبد الخالق بن عبدالجليل بن حسن الجنبي؛ في رحاب مؤتمرات جمعية تاريخ وآثار دول مجلس التعاون في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وكان الراحل وقتها في عز شبابه، وخضم ميدان البحوث والدراسات أيضًا. ومن هناك توثقت علاقتي الحميمية به في حضور جميع مؤتمرات الجمعية، حتى أنني وبصحبة أخي د. وسام السبع ومجموعة من الباحثين؛ زرناه في منتجعه الصيفي في العقد الأول من الألفية الميلادية الثالثة، وتناولنا شيء من طعام الغذاء معه ومع بعض أفراد أسرته الكرام. وكان يوماً ثقافياً بامتياز بكل معنى الكلمة. كما اتحفنا، كعادته، ببعض اصداراته الجديدة حينها.
ثانيها: تشاركنا سويًا في تبادل ما نُصدره من كُتب، وفي رحلات ثقافية ممتعة ومُثمرة حقًا، إلى الأحساء، مرة كنت فيها مدعواً لإلقاء محاضرة هناك. والمرة الثانية بين عامي 2009- 2010؛ كان هو المُتحدث في المحاضرة، بعد أن أصدر كتابه المُدعم بالأدلة العلمية (جِرّة: مدينة التجارة العالمية القديمة) من إصدارات مؤسسة الساحل لإحياء التراث.
ثالثها: التقينا على بساط المحبة واللقاءات الثقافية التاريخية بين البحرين، والقطيف، ضمن فكرة اللقاءات السنوية التي لم تستمر للأسف.
رابعها: دعوته شخصياً لمحاضرة في مجلس أمير بن رجب الثقافي في البحرين في شهر مايو من عام 2018م، فوافق بالرغم من مشقة السفر من الشرقية إلى البحرين والعودة ليلاً في اليوم ذاته، وكان حينها قد استقر هذا القُديحي سكنًا في تاروت القطيف. كما اختار للمحاضرة تلك، عنوانًا لطيفاً كما هي أخلاقُه: (اللؤلؤة ورمزيتُها للخلود عند سكان الخليج).
خامسها: عرفتُ في الراحل العزيز، التثقيف الذاتي بعلمٍ غزير ومتنوع في الأدب والتاريخ والجغرافيا والآثار، بعد أن حرمته الظروف من إكمال دراسته الجامعية في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة بين عامي 1988-1999م.
سادسها: كتبت له في شهر فبراير من عام 2019، بعد أن أقلقني غيابه عن الساحة وعن التواصل: عزيزي عبدالخالق.. زمان لم نسمع منك.. دخلتَ فترة صمت، وربما عمل مثمر قريبا.. طمنا عليك يا غالي.
فجاء رده سريعاً: وعليكم السلام ورحمة الله أستاذي.. نعم أنا في غاية الانشغال هذه الأيام بوضع اللمسات الأخيرة لتحقيقي الجديد (تاريخ الشريف العابد أخي محسن).. وعادة إذا وصلت إلى المرحلة الأخيرة لأي عمل جديد – وأنا واقع فيها الآن – أدخل في سديم خفي لا أخرج منه إلا بتسليم الكتاب إلى المطبعة، والذي أرجو أن يكون قريباً جداً. آسف لتقصيري بحقك، وشكراً للطفك وسؤالك عني. فكتبت له: يبدو عملًا مشوقًا، عساك على القوة. فقال: هو عمل فيه الكثير من تاريخ قرامطة البحرين لم يكتب مثله من قبل. وبقينا كعادتنا نتبادل مثل هذه الأخبار والإطلالات، أو التهاني بصدور أحد كُتبنا. وكنت كلما أنجزتُ عملاً تسجيلياً أو كتابياً أعلمته بذلك، وهو يُعلمني بما يُنجزه أيضاً، حتى أنني عندما قُمت بمحاورة الأديب الأستاذ تقي البحارنة ضمن برنامج حكاية المنامة “حديث الذاكرة”، وأرسلت له الحلقة في شهر أبريل عام 2019م؛ جاء رده: كلاكما جميل أنت والأستاذ البحارنة. وكذلك تم التواصل بيننا في زمن جائحة “الكورونا”، كلٌّ منا يطمئن على الآخر، وحكايات كثيرة لا مجال لسردها الآن.
سابعها: بحثت وسألت عنه كثيراً مُعظم الأخوة والأحبة في المنطقة الشرقية، بعد أن علمت باعتلال صحته قبل رحيله، وكان آخر تواصل صوتي بيني وبينه في مطلع شهر أكتوبر من عام 2023م، بعد سؤالي عنه؛ أن طمأَنني على وضعه الصحي، لكن كان صوته مُتعباً مما هو فيه حينها، فازداد قلقي عليه، خصوصًا بعد أن أخبرني الأخوة في الشرقية بأن الزيارة قد مُنعت عنه. كما تم نقله إلى أحد مستشفيات الرياض، وكان ذلك قبل أكثر من شهر من وفاته، وأن هناك نية لعمل تكريم مُعين لهذا الباحث الجليل حقًا، ومن ضمن التكريم، فكرة إصدار كتاب عنه وعن أعماله. وذكرت للأخوة بأن الفكرة ممتازة، ووافقت مباشرة دون تردد عليها، وأنه من دواعي سروري وواجبي المشاركة إكرامًا وتقديرًا لأخي أبا طاهر، بل وحثثت الأخوة على الإسراع في ذلك الأمر. لكن القدر كان أسرع من الجميع، وترجل ابن القطيف اللطيف، والفارس النحرير، عن صهوة جواد البحوث مودعاً، وكأنني انظر إلى يديه ملوحاً بالوداع الأخير.