1] غليان الربع الخالي الشيوعيون مثل الإخوان المسلمين.. إما أن تكون معهم.. أو ضدهم
محمد الهلال
أثناء سبرنا الإبداعات الأدبية لكل من الشاعرين سيف الرحبي وفوزي كريم وكذا الكاتب عابد خزندار، نجد من بينها مؤلفات موشومة بنفس العنوان “الربع الخالي”، وكلها مفتوحة على الصحراء العربية الكبرى بعوالمها الخفية، البيئة التي تطبع أكثر من بلد عربي فتصنع من رمالها عاملا مشتركا ووحدة ترابط ونظاما اجتماعيا قد يجعلها تتقاطع في نفس المصير، وربما العدو لم يكن في يوم واحد، فهناك إلى جانب الطبيعة قسوة الحياة وكائنات حية تحاول التعايش مع بعضها والحذر من البعض الآخر، عدوا كان أو غريبا ظهر متأخرا.
مع انبعاث بوادر الخير من باطن الأرض، تجلّى الطمع فسيّر بعضا من ساكني الربع الخالي، فعلى الأغلب يكون الجهل عدوا أزليا للإنسان، وعندما تفكر السلطة في ذاتها تستمر على شكل صراعات رهيبة تغزو أركان الربع الخالي. تلك أمور تناولها أيضا الروائي عبد الرحمن منيف في بعض أعماله مثل “شرق المتوسط” و”مدن الملح” و”عالم بلا خرائط” و”سباق المسافات الطويلة “، ولربما يكون هو من فتح الباب لعناوين مشابهة تذهب بعيدا بالمكان والزمان وتتناول هموم الوطن العربي وتشمل تقريبا جميع قضاياه الإنسانية، وبالتالي تساهم في خلق روابط إنسانية واجتماعية وسياسية بين أبناء الوطن، وتخلق نوعا من وحدة المآل.
وعندما أتناول اليوم رواية “الربع الخالي” للكاتب الراحل عابد خزندار، لا أركز على زاوية الشأن المحلي فقط، بل أتأمل كونها من السرديات العربية التي تعالج قضايا العالم العربي من مختلف الأبعاد.
عابد خزندار لا يمكن اعتباره قارئا عاديا ولم يكن في كتابته عاديا، وربما يعود ذلك إلى الزمن الذي ولد وعاش فيه أو إلى ظروف نشأته وإلى تعليمه على يد امرأة في بداية حياته، وارتباطه بكتاب “ألف ليلة وليلة” حيث أنهُ ترجم من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية كتابا عنوانه “أنثوية شهرزاد” للكاتبة ماري لاهي هوليبيك، عدا الكتب التي عكف على قراءتها في مكتبة والده، إضافة إلى تأثره بهذا الأخير الذي كان كاتبا وصحفيا، وأيضا رحلته إلى مصر للدراسة الجامعية عام 1953م، ومتابعته لمحاضرات طه حسين (1889-1973) رغم أنه كان طالبا في كلية الزراعة، وأيضا الأنشطة الثقافية التي كان يمارسها، وقربه من أستاذه عبد الله عبد الجبار(1920-2011)، وتعرفه على الكاتب سلامه موسى (1887-1958)، ومن ثم الذهاب إلى أمريكا بعد ذلك للحصول على الماجستير، والعودة إلى المملكة العربية السعودية للعمل مسؤولا في وزارة الزراعة.
وتلا ذلك تكبده السجن مع الكاتب عبد الكريم الجهيمان (1912-2011) والشاعر عبد الرحمن المنصور (1920-2008)، وبعدها آثر الذهاب إلى باريس للإقامة والدراسة المفتوحة التي كان الهدف منها بالدرجة الأولى توسيع المعرفة و اكتساب اللغات، فغدا متمكنا من القراءة والكتابة بثلاث لغات، الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
كلها تجارب حياتية وعلمية أضفت على عابد خزندار سِمتيْ الاختلاف والتميّز، وبالتالي ربما يتطلب منا ونحن نقرأ أول رواية له “الربع الخالي”، أن نتوقف أمامها طويلا، مُتأملين تلك الأسلوبية الأدبية، ذات التكثيف والعمق والتصوّر، متطلّبة منّا مجهوداً كبيراٍ للبحث وراء “معنى المعنى وحقيقة الحقيقة ” حسب تعبير كاتبها، فهو لا يحكي سيرة ذاتية كما توقع بعض القراء، ولكن كتابته تعكس تجربة حياة.
لنبدأ الآن في قراءة رواية الربع الخالي بعد هذه المقدمة التي كان لابد منها حسب اعتقادي وذلك للمكانة المرموقة التي يتمتع بها هذا الكاتب الراحل سواء داخل المملكة أو خارجها.
عبدالرحمن منيف
حكايات وليست حكاية واحدة، يكتب عابد خزندار روايته الأولى كما يكتب مقاله “نثار”، بل ليس هناك أيّ فرق، الفرق الوحيد أن هناك أبطالا تحكي قصصها وأمكنة تزورها وأزمنة تحدث عنها، فبعد أن جرب المقال لسنوات طويلة وجد أنه لا يكفي لنشر أفكاره التي آمن بها ودافع عنها منذ أن عرف الورقة والقلم، ففكر بالرواية، لا لشهرة يطلبها ولكن لأفكار يؤمن بها ويود أن تصل إلى المجتمع، فيتشاركا الحديث حولها، الرواية اليوم أكثر مقروئية داخل الوطن العربى وفي ربوع العالم، والجيل الجديد يقبل على مطالعتها، وربما يكون سبب هذا اللجوء عاملا لانتشار هذا المنجز السردي بصورة لافتة للنظر قياسا بالمنجزات الكتابية الأخرى.
ربما وجد كاتبها فرصة لأن يسرد شيئا من سيرته الشخصية، دون خوف من أحد، فكتابة السيرة الذاتية في مجتمعاتنا العربية تعدّ من أخطر أنواع الكتابات، فالقلق يسيطر على كاتبها من المجتمع السياسي أو الاجتماعي الذي يعيش فيه، أو من أقرب الناس إليه كما حصل مع الكاتب والناقد المصري الكبير شكري عياد(1921-1999) في كتابه “العيش على الحافة” الذي صدر عام 1998م قبل وفاته بسنة، أو مثلما فعل عبد الرحمنٰ منيف قبله وهجر العمل السياسي بعد مؤتمر حمص عام ١٩٦٢م، مفضّلا التوجه نحو الرواية لا هروبا كما يقول ولكن كمواجهة.
شكري عياد
يذهب عابد لعالم الرواية ولكن ليس للدفاع عن قضايا سياسية كما فعل منيف، ولكن لطرح القضايا الاجتماعية والثقافية، فـ “نثار” لم يكن مقالا سياسيا، وحتى لو تداخلت فيه بعض الأحيان القضايا السياسية مع الاجتماعية، فمن الصعب جدا فصل القضيتين، وهنا تكمن عبقرية عابد، الذي أقتحم المقال وهو محصّن بالعلم والمعرفة، وعقلية تعرف التحليل قبل الكتابة، ربما كان يحتاج لمن يسانده، فكان الصحفي الراحل عبد الله الجفري. (1939-2008)
لذا لا يمكن اعتبار “الربع الخالي” رواية سجين سياسي كما يعتقد البعض، ولكنها حكاية كاتب تجاوز الخطوط الحمراء، فمن شاركه السجن كان كاتبا كبيرا يدافع عن قضايا المرأة، وسجن على ذلك واحدا وعشرين يوما. ( عبد الكريم الجهيمان). وهو يستهل الرواية بهذا المقطع من الصفحة ٧ مؤكدا فيه استغرابه العودة للسجن مرة ثانية: “رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يطرق فيها زوار الليل باب بيتي المتواضع، أو على الأصح بيت العائلة الذي ورثته من والدي في أم المدائن عاصمة الربع الخالي القديمة، وكما قلت رغم أنها لم تكن المرة الأولى لزوار الليل، إلا أنني أحسست بشيء من المفاجأة، ولماذا لا أعترف وأقول بشيء من التوجس، فلماذا عدا ما بدا، فحين خرجت من السجن، وهو سجن استمر عامين، حسبت أنني لن أسجن مرة أخرى، ذلك أنه لم يصدر ضدي أي حكم، ثم إنني لم أرتكب بعد خروجي أي شيء يوجب اعتقالي”.
وفي مقطع آخر من الصفحتين ٢٣و٢٤، يقول: “الفلسفة مرة أخرى… ويبدو أنك إنسان لا تعيش في هذا العالم، ولهذا لا أعرف لماذا يسجنون؟ قلت: لهذا قصة طويلة وسأكتبها في يوم من الأيام إذا سمحوا لي بالكتابة وأكتفي بالقول إنني لم أقترف أي عمل. أنت ممنوع من الكتابة؟ ولكن لماذا؟ فما أكثر الصحف في بلادنا ولا أحد يقرأها فلماذا يمنعونك منها؟ قلت: لأنني لو كتبت فيها فهناك من سيقرأ لي… عدنا إلى الفلسفة..أرجوك دعنا نتكلم عن المهم”.
ويقارن بينه وبين السجناء الآخرين ليؤكد لنا أكثر أن هناك فرقاً بينه وبينهم، إذ في الصفحة ٩ يقول: “عرفت السبب فيما بعد، كان ممتلئا بأفراد جماعة دينية متطرفة”، وكأنه يقول إنه لا يوجد وجه مقارنة بيني أنا صاحب القلم وبين هؤلاء من أصحاب السيف والدم.
ويكمل في مقطع آخر من الصفحتين ١٧و١٨ بما يلي: “يبدو أنك إنسان غريب أو فيلسوف، ولكن نسيت أن أسألك لماذا أنت موقوف؟.. لعلك شيوعي! قلت: لست شيوعيا”.
وهنا يؤكد أنه يدافع عن أفكار تقدمية وليس إيدلوجيا التزم بها، وهي تهمة جاهزة يطلقها البعض على كل من يحمل أفكارا يخشى منها أو يخاف من أن تحرر البعض الآخر من القوالب الجاهزة التي وضع بها، وهي تلصق بكل من يخالف الأفكار الأمريكية.
محمد عودة
في الرواية يتطرق عابد لنفس الموضوع في حديثه عن الكاتب محمد عودة إذ يقول في الصفحة ١٣٠ : “وفي يوم من الأيام أخذني يوسف حمودة إلى مقهى ريش، وهناك عرفني إلى كاتب مصري اسمه محمد عودة، وكان يكتب في روز اليوسف، وكان يساريا، ولو أنه لم يكن شيوعيا، رغم أنه ألف كتابا عن الصين الشعبية كان له صدى كبير، وجذب إلى اليسار العديد من الشباب، وكان تأثيره أكبر من تأثير كل المنشورات الشيوعية التي كانت توزعها حديتو:” الحزب الشيوعي المصري”.
وهنا يشير إلى ضرورة أن يكون المثقف الحقيقي حرا، يكتب ما يمليه عليه ضميره دون أي ضغوط لا من أشخاص ولا من أحزاب.
ثم يقول في الصفحة ٣٦ : “قلت لعل الطريق لم ينشأ أساسا بطريقة صحيحة. أنت تجد دائما ما تنتقده… ولعل هذا هو السبب في سجنك”.
وفي مكان آخر من الرواية يقول في الصفحة ٩٨ : “ورغم أنني أحسست أنني غريب بينهم ولم أقتنع بأفكارهم، إلا أنني حرصت على حضور جلساتهم من أجل أن أكون مع ناهد وقد سجنوا فيما بعد في الواحات أما ناهد فلم تسجن نظرا إلى مركز أبيها، أما أنا فقد داهمت بيتي قوة عرفت أنها من المباحث الجنائية، وقد احتجزوني ليلة وأفرجوا عني في الصباح دون أن يحققوا معي، عرفت فيما بعد أن والد ناهد توسّط للإفراج عني خصوصا وأنه كان يعرف من خلال أحاديثي معه أنني لست شيوعيا”.
ويقر بذلك صراحة في مكان آخر من الرواية، إذ يقول في الصفحتين ١٣٠و١٣١: “وأعترف أنني تأثرت كثيرا بالأفكار اليسارية ولكني نفرت من الشيوعيين إذ كانوا كالإخوان المسلمين استفزازيين، إما أن تكون معهم وإما أن تكون ضدّهم، ولا توسط عندهم، ولا يقبلون بالتالي أي رأي يخالف آراءهم”. ومن يقرأ الرواية سوف يلاحظ أن بعض حواراتها كانت حوارات نقدية وهي أدلة مهمة على كون السجين كان سجين رأي.
يُتبع
دراسة جميلة جداً بالتوفيق إن شاء الله 🌹