مايو.. شهر الانتظار و “التوف” والكعك والورد والفُقّاح
القطيف: صُبرة، خاص
يُعامل سكان القطيف القُدماء شهر مايو معاملةً مزدوجة، الفلاحون يرونه شهراً خاملاً في الدورة الزراعية. أما البحّارة فيرونه بداية مغامرة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ.
في بساتين النخيل؛ تبدأ بعض أصناف الرطب في التكوّن في مرحلة “الخَلالْ” الأخضر، وبعضهُ قد يدخل مرحلة “التشهيل”، الأولى، وبالذات صنف “الماجي” الذي تبدأُ نُقاط من حُمرة تظهر فيه، خاصة في نخيل الشوارع والمنازل، بوصفها الأكثر حرارة من البساتين.
وتكون فاكهة “الكعَك” في منصفها، متداخلة مع فاكهة “التوفْ”. ويبدأ “البمبر” في التكور من زهراته الصغيرة، وكذلك “اللومي”، والتين، وبعض اللوز. وربّما يبكّر قليلٌ من في النضوج.
حرارياً؛ مايو شهر مضطرب، فقد تمرّ نهارات لا تقلّ حرارة عن نهارات أغسطس بكثير، لكنها من الممكن أن تمرّ بها نسائم باردة، خاصة في الصباحات، وما بعد العصر.
كعَك الربيع
“كَعَكْ” أو “كعْكَعْ” في القطيف. وفي جازان “لوز”، وفي السودان “تمر هندي”، وهو شبيهٌ بالتمر الهندي، لكنه يؤكل طرياً. ينضُج، في القطيف، بعد تزايد حرارة الربيع، في مايو أيار. لكنه يصل إلى أسواقها في أبريل نيسان مجلوباً من جازان، أي قبل نضوجه في القطيف بقرابة شهر. وذلك يتزامن مع نضوجه في السودان.
تقع الخرطوم بين دائرتي العرض: 15 و 16 شمال خط الاستواء، وقبل مدار السرطان، حيث تتركز الشمس أكثر. فيما تقع القطيف عند دائرة العرض 26 شمال خط الاستواء، ما يضعها في ضمن مدار السرطان، بوصفه أقصى حد تصله أشعة الشمس عمودية في نصف الكرة الشمالي.
شجرة “الكَعَكْ” كثيرة الشوك، لكنّ ثمرتها لذيذة، وتُهدى، وسعر صندوق منه (أقل من كيلوغرام) يصل إلى 15 ريالاً وأكثر. (4 دولارات). وفي الموسم؛ ينتشر باعته على الطرق الريفية، ويشهد إقبالاً كلّ عام.
توف.. لا توث.. ولا توت
“التوف” أول فواكه الربيع في الشطر الشرقي السعودي. ينضجُ في مارس آذار، ويستمر إلى مايو، ويُسمّى في الأحساء “توث” و “توت”. لكن القطيفيين يسمّونه “توفْ”، بالفاء. وليس عليهم جُناحٌ في هذه التسمية. ذلك أن ثمة سببين لسانيين وجيهين: أولهما أن أصل الكلمة المعرّبة عن الفارسية لم يرد بـ “التاء”، بل بـ “الثاء”. أما ثاني الأسباب؛ فهو أن إبدال الثاء فاءً إجراءٌ لغويٌّ أصيلٌ ومعمولٌ به في ألسنة بعض أسلافنا العرب الأقحاح..!
أصل الكلمة
أخذ العربُ اسم الفاكهة عن الفرس الذين كانوا يسمونه “توث” بالثاء. ثمّ عربوا الكلمة، واستعملوها على شكلها الصوتيّ الفارسيّ.. وأنشد محبوب بن أَبي العَشنَّطِ النَهْشَلِيِّ:
لَرَوْضَةٌ من رياضِ الحَزْنِ أَوْ طَرَفٌ
من القُرَيَّةِ جَرْدٌ غيرُ مَحْروثِ
لِلنَّوْرِ فيه إِذا مَجَّ النَّدَى أَرَجٌ
يَشْفي الصُّداعَ ويُنْقي كلَّ مَمْغُوثِ
أَحْلى وأَشْهَى لِعينيْ إِن مَررتُ به
مِنْ كَرْخِ بَغْدَادَ ذي الرُّمَّانِ والتُّوثِ
ونقل ابن منظور عن ابن بري أن “أبا حنيفة الدينوري ذكر أَنه بالثاء”؛ وقال “حُكي عن بعض النحويين أَيضاً، أَنه بالثاء. قال أَبو حنيفة: ولم يُسمع في الشعر إِلاّ بالثاء”. [لسان العرب: توث]
وقبل ذلك كله؛ بدأ ابن منظور حديثه عن مادة “توت” بقوله “التُّوتُ: الفِرْصادُ، واحدته تُوتَةٌ، بالتاء المثناة، ولا تقل التُّوثُ، بالثاء”..! [المصدر السابق: توت]
ثم تحدث عن مادة “توث”؛ فأشار إلى الأولى فقال “التُّوثُ: الفِرْصادُ، واحدتُه تُوثةٌ، وقد تقدّم بتاءَين”.
ومعه صاحب [الصحاح في اللغة: توت] الذي يقول “التوتُ: الفِرْصاد، ث، ولا تقل التُوث”.
وكذلك [القاموس المحيط: التوث] و [مقاييس اللغة: توت].
وإصرار اللغويين على “التاء” بدلاً عن “الثاء” الواردة في الأصيل يدلُّ على تحوّلٍ صوتيٍّ فرض نفسه فرضاً بعد تعريب الكلمة. ويدلّ على ذلك ما قاله أبو حاتم السيسجتانيّ في “كتاب النخلة” قبلهم إن “التوت اسمٌ فارسي، أعربتْه العربُ، فجعلوا الثاء تاءً”.
الثاء فاء..!
وهذا يعني أن أصل الكلمة “توث”، وقد استخدمه الشعراء بالثاء (طبقاً لأبي حنيفة الدينوري). لكنّ الناس صاروا ينطقون الكلمة بتاءين بينهما واو “توت”. لكنّ سكان القطيف تمسّكوا بحروف الكلمة الأصل “ت و ث”. ولأن جزءاً عريضاً منهم ينطقون حرف الثاء فاءً، تحولت كلمة “توث” إلى “توفْ”..!
وإبدال الثاءِ فاءً، والعكس أيضاً، من ظواهر اللغوية المعروفة، وينقل ابن منظور عن ابن جنّي قوله “ذهب بعض أَهل التفسير في قوله عز وجل: {وفُومِها وعَدَسِها}، إلى أنه أراد الثُّوم، فالفاء على هذا عنده بدل من الثاء”. وجاء في “الصحاح في اللغة” أن “ثومها” وردت بدلاً عن “فومها” في إحدى القراءات*.
وقد رصد اللغويون العرب هذه الظاهرة، أمثال ابن جني، وابن الفرّاء، ومصنّفي المعاجم. وهي ظاهرة استمرّت حتى عهدٍ قريب في مناطق خليجية كثيرة، أهمها البحرين والقطيف وأبو ظبي، فضلاً عن وجودها في بعض المناطق اليمنية، طبقاً لما رصده الباحثان: البحريني حسين محمد الجمري والإماراتي أحمد محمد عبيد.
هذه الظاهرة حولت كثيراً من الكلمات إلى شكل مختلف في النطق: ثلج: فلج، اثنين: افنين، ثلاثه: فلافه، ثار: فار، ثابت: فابت.. إلخ
توث، توت، توف..!
وزبدة مخاض هذا كله؛ هو أن استخدام كلمة “التوف” بدلاً عن “التوث” صحيحٌ.
صباحك الصّبَّاحيْ
والورد والفُقَّاحي..!
هذه هي الصيغة الأصلية لأهزوجة جدّاتنا وأمّهاتنا في هدهدة الصغار. وقد اختفت كلمة “الفُقّاحْ” من الأهزوجة وحلّت كلمة “التفّاح” محلّها. والفرق بين “الفُقّاح” و “التفاح” ليس فنياً محضاً. إنه فرقٌ ثقافيّ جوهريّ. كانت جدّاتنا يستخدمن الكلمة في الأهزوجة انعكاساً لبيئتهنّ الزراعية التي تُسمّي زهْر الإترجّ بهذا الاسم. وأبناءُ جيلي أدركوا “الفُقَّاح” وكثيرٌ منهم أكلوا منه، وخـَبَروا عطره.
ثم إن”الفُقّاحْ” كلمة عربية فصيحة جداً.. جاء في [لسان العرب: فقح]: “فُقَّاح: كل نبت زَهْرُه حين يتفتح على أَيِّ لون كان، واحدته فُقَّاحة. قال عاصم بن منظور:
كأَنكَ فُقَّاحةُ نَوَّرَتْ
مع الصُّبْحِ، في طَرَفِ الحائِر
وفي [الصحاح في اللغة: فقح]: “وعلى فلانٍ حُلَّةٌ فُقَّاحِيَّةٌ، وهي على لون الورد حين همَّ أن يتفتَّح”. وفي [القاموس المحيط: فقح]: “فقّحَ النَّباتُ: أزْهى وأزْهَرَ”. وفي العموم؛ فإن المعنى الأول لـ “الفقح” هو التفتح، في الكلام، والزهر، وغيرهما.
وهذا ينتهي بنا إلى أن التسمية القطيفية “فُقّاح” فصيحةٌ تماماً من دون أية شائبة أو انزياح صوتي أو دلاليّ. كما أن إبدال القاف كافاً مخفّفة استعمالٌ فصيحٌ أيضاً. وفي الأحساء ينطقون الكلمة “فَقَّيح”، وتعني “زهر الثمار عامة وزهر الحمضيات خاصة”، حسب.