القديح تسجّل ليلة وفاء لـ “ناطورها” جعفر الحيراني حضر الشعر بالرثاء.. وتكفّل النثر بفتح نوافذ الذاكرة
القديح: جمال أبو الرحي
مرّت أربعون ليلة على رحيله، وآن أوان تكريمه على طريقة تليق برجلٍ بذل شطراً من عمره عيناً ساهرة على أمن بلدة القديح. إنه الحاج جعفر أحمد الحيراني. ربما ليس من المشاهير، ولا من الشخصيات التي تتصدر المجالس، أو تنتظر شكراً أو تكريماً، ولكنّ ذاكرة أجيال متعاقبة في البلدة تعرف ذلك الوجه الذي يبدأ تجواله في شوارع البلدة منذ ما بعد العشاء إلى طلوع الشمس. وتعرف فيه بشاشة الأب، ومزاح الصديق، وابتسامة آخذ الدنيا على مهلٍ وصبرٍ وكدحٍ وكفاح.
ولسنواتٍ طويلة، كان “أبو محمد” وشريكه الحاج حسن آل محمود، رحمهما الله، يتوليان مهمة “العسس”. ومن أجل وضع لمسة اجتماعية طيبة، تبنى السيد موسى الخضراوي فكرة تأبين الراحل الحيراني، في منزله، مساء البارحة، وهذا ما حدث.
كان حفل تأبين متكاملاً، حضره الشعر والأدب، عبر منصة تولّى عرافتها علي العوى، ورتّب تناوب المشاركين على مكبر صوت المجلس، للتعبير عن احترام الرجل الراحل
عصاميون
بدأ الحفل بالقرآن الكريم، وانتهى بالنعي الحسيني بصوت الخطيب سعيد المعاتيق.
وفي كلمته تحركت ذاكرة صاحب مبادرة التأبين السيد موسى الخضراوي فقال مُخبراً حضور الحفل “كنت في منزل الوالد أبي محمد أخاً لولده محمد وإخوانه من قبل أكثر من خمسٍ وثلاثين سنة، رأيتُ فيها كم أنّ هذا الوالد الفاضل، وزوجته الصالحة “أم محمد” نموذج فريد للمؤمنين العصاميين المكافحين.. عصاميته تلك جعلته نموذجاً يحتذي به أبناؤه؛ فبدت عليهم أمارات تحمل المسؤولية صغاراً يافعين”.
وأضاف الخضراوي “كان يعمل ليلاً حارساً لبلدته وأهلها، ويتبعه عصراً بالعمل في بوفيه صغير في بيته، واستمر عمراً مديداً على هذا الحال، فكان قمةَ في التفاني والإيثار لأغصانه المورقة؛ بحيث كان يحترق كالشمعة؛ ليضيء لهم الطريق.. هذا الأب الفاضل نشأ يتيم الأب، وذاق مرارة اليتم منذ الصغر، وهذا أكسبه القوة والتحمل، كما أكسبه حناناً خاصاً على كل مَن حوله”.
وقال الخضراوي “عادةً تكون الوجاهة والعزة للرجال في مجتمعاتهم؛ تقديراً لمواقفهم النبيلة وخدماتهم الاجتماعية المتعددة؛ أما الوالد الفاضل “أبو محمد” فكان وجيهاً في قومه بحسن خلقه، وحسن تعامله، وحنوّه المتدفق على الجميع وذاك لا يكون إلا نادراً. عاش الصمت فنَاً وسلوكاً وأدباً وقدوة – واقعاً وخيالاً – ولعله بسلوكه هذا أسّس مدرسة خاصة به في التربية والتوجيه.. لم يحظَ الوالد بالتعليم؛ لكنه حرص على تزويد أبنائه – جميعاً – بالعلم والمعرفة و الأخلاق النبيلة”.
يُطعمهم من حبه
وحين جاء دور الشعر؛ تتابعت القصائد.. وتسلم إبراهيم الزين مكبر الصوت ليُلقي:
فمن أي بابٍ نهتدي لسجيةٍ
وما ورِثَتهُ في سجاياهُ فِتيَةُ
أمِن طهرهِ والطهرُ كان وَضُوءَهُ
يصلي بهِ عند الآذان ويقنتُ
أمِن سعيه طول الحياة يجوبها
كفاحاً وما ملَّتْ من السعي سِيرَةُ
أمِن صبرهِ والصبر كان أنيسَهُ
إلى أن بدا فيهِ كما الزرعِ ينبُتُ
أمِن كثرة الأطفال حين يضمهم
بدكانِهِ تعلو مُحياهُ بسمةُ
ويطعمهمْ من حبِّهِ وحنانِه
وتشبعهمْ من فيض جنبيهِ رأفةُ
ما أحلاك في فمنا
الدكتور عبدالله العبيدان ألقى قصيدة قال في بعض أبياتها:
هل لابتسامتك النوراء من مَثل
وقلبك العذب كم يحوي من المُثل
عشنا لديك أباً باللطف ممتزجاً
وما رأينا سوى عذبا من العسل
يا نادر الخُلْق يا من طبعه دمثٌ
ويا حكيما بليغًا دونما خطل
إن يستمعْ فهو مُصغٍ كله نظرٌ
وإن يقل فهو جد دونما هزل
أبا محمد ما أحلاك في فمنا
روحا مطهرة في القول والعمل
سقفٌ واحد
السيد حسين آل درويش له قصيدة أيضاًن ومنا:
إنا ببيت فيه سقف واحدٌ
لا نرتضي بدلًا سواه يُشيَّدُ
في سقفنا لغة الحنان وإنه
للخير نبعٌ للجمال تجرُّد
لا خير في بيت بدونك يا أبي
إن البيوت بطودها تتوتد
يا والدي يا سقف كل فضيلة
كونتني منها فكان المولد
عيناي يا أبتي لظلك تنحني
فكأن ظلك في المحاجر مسجد
يا واحدًا في ركن روحي ماثلٌ
طودًا تعملق فهو فيها الأوحد
يا أبي.. تعال..!
ابن الراحل محمد الحيراني كان له موقف الابن وهو يؤبّن أباه..
أَبِيْ، يَا غَرَامَ اللَّيْلِ حُلْوَاً وَإِنْ مَرَّا
وَإنْ كَفَّ عَنْ مَسرَىً، وَإْنْ وَاصَلَ الـمَسْرَى
وَإِنْ ضَحِكَتْ فِيْهِ السَّمَاءُ، وَإْنْ بَكَتْ،
وَإِنْ أَظْهَرَتْ صِدْقَاً، وَإِنْ أضْمَرَتْ مَكْرَا
تَعَالَ أَنَا لَيْلٌ بِدُوْنِكَ شَارِدٌ،
أَنَا مَطْمَعٌ عَارٍ، أَنَا غَايَةٌ حَسْرَى
تَعَالَ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ مَا صَدَّقَ الأَمْرَا!
تُحَاصِرُهُ ذِكْرَاكَ صَاحِيَةً، سَكْرَى!
وَتَأْخُذُهُ أَعْلَى وَأَسْفَلَ مُرْغَمَاً،
وَتَمْضِيْ بِهِ يُمْنَى، وَتَأتِيْ بِهِ يُسْرَى
عَلَى هَائِجٍ، مِنْ مَائِجٍ، مِنْ نُفُوْذِهَا
تَرَى هَادِمَ اللَّذَّاتِ أَجْرَى بِما أَجْرَى
أَضَاعَ عَلَيهَا الزَّوْرَقُ الثَّبْتُ دَرْبَهُ،
وَجَدَّفَ فِيْ خَبْطٍ، عَلَى نَظْرَةٍ حَيْرَى
تَعَالَ؛ فَكَم أَوْدَى بِلَيْلِكَ آسِرٌ!
وَهَلْ يَدَفَعُ الـمَأَسُوْرُ عَنْ نَفْسِهِ الأَسْرَا؟
عنوان غير مناسب لأن كلمة ناطور تستخدم في الأهانة والتهكم والعم أبو محمد عزيز على أهل القديح ولا أحد يرضى عليه أرجو أنتقاء مصطلحاتكم بعناية