رباب.. باعها والدها لتاجر مخدرات.. وماتت بالإيدز.. رخيصة سُجن زوجها مؤبداً في دولة خليجية.. وقدّمت جسدها لجرعة هيروين

القطيف: ياسمين الدرورة

لم يخطر على بالها، بعد كل الذي عانته، أن تنتقل من بؤس إلى بؤس آخر، كانت تمني نفسها أن يعوضها الله عن قسوة الحياة التي عاشتها في كنف أب مدمن لا يعرف عن نفسه ولا أهله شيئا، وغياب أم ضاعف المرارة والقسوة.

كانت رباب كغيمة بيضاء نقية ممتلئة بالحياة رغم كل أسباب التعاسة التي أحاطتها، ورغم حياة الفقر والعوز والحاجة التي طالما هددت سكينة نفسها.

كبرت وكبرت أمانيها في الخلاص، لكن القدر كان قد حاك لها ابتلاء آخر، فتقدم شاب لخطبتها، عريس مقتدر، ظنت أنه سينسيها السنوات المريرة التي عاشتها، هكذا حدثت نفسها، وقبل أن تكمل حديث النفس كان والدها موافقاً على الشاب فعقد قرانها وهي بعمر 24 سنة.

بدأت رباب تنسج أحلاما لبيتها وحياتها الجديدة، وكأي عروس عاشت ليلتها الأولى مغمورة بمشاعر الفرح ومحفوفة بتبريكات الأهل والأصدقاء، ولم تكن تعلم أنها الليلة التي لن تعقبها راحة ولن تضاء بعدها قناديل الفرح مجددًا.

صفقة تجارية

يوما بعد يوم بدأت ترتاب في تصرفات الزوج وسلوكه، حاولت أن تبرر وأن تتغاضى، لكن الأمر كان أوضح من محاولات خداع النفس، نعم ما كان ملتبسا عليها فهمه بان وانكشف، فما كان زوجها سوى تاجر ومتعاط آخر للمخدرات مثل والدها، وما هي إلا صفقة لحصول والدها على جرعته اليومية من الهيروين بسهولة.

انقضت ليال طويلة بكت فيها ساعات وساعات نادبة حظها العاثر، لم تدر أين تولي وجهها، وكأن الدنيا أجمعت على تعاستها.

النفس الأول

في الفترة اللاحقة عاشت رباب أيامها حزينة غاضبة، وقلة حيلتها أضاف لها مشاعر مختلطة من الحنق والقهر، وفي إحدى المرات ومع كثرة إلحاح زوجها عليها بتجربة ما يسبب انتشاءه وشعوره بالقوة والنشاط، والتحليق حسب وصفه؛ أذعنت وكل كيانها راضخ لفكرة الخلاص من الغصة التي تشعر بها.

ولم لا؟ فاستنشاق نفس واحد لن يضر.

هكذا خطت رباب أولى خطواتها في الطريق المنحدرة، ثم بدا كل شيء يسير برتابة منطقية، فتوفر المادة المخدرة، طوال الوقت، في زوايا المنزل والفراغ الذي تعيشه كان حافزاً لها للاستمرار.

خرج ولم يعد

سافر زوجها كعادته خارج الحدود، وغاب أسابيعاً وامتدت لأشهر دون أن يصلها خبراً عنه، وفي الوقت نفسه بدأت تظهر عليها علامات الحمل مما زاد من قلقها وحيرتها.

علمت رباب، لاحقا، أنه تم القبض عليه بتهمة حيازة كمية كبيرة من المواد المخدرة في دولة خليجية؛ وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد بعد محاكمته بتهمة ترويج الممنوعات.

قبضة المخدرات

وكما قُبض على زوجها، وجدت رباب نفسها في قبضة المخدرات، وأصبحت أسيرة جرعة الهيروين، تبحث عن الأيدي التي تبيعها خلسة.

وفي الحارة القديمة، بين زوايا أزقة ضيقة اعتادت أن تبتاع ما تريد من بعض الصبية الصغار بعد خروجهم من المدرسة، وبخطوات مترددة وعيون حذرة يُخرجون أكياس صغيرة ملفوفة من جيوبهم لمناولتها للزبون.

استمر الحال على ما هو عليه إلى أن وضعت صغيرتها قبل أوان ولادتها بحجم ووزن ضئيل جداً، وبحالة أخضعتها للكثير من العناية الصحية والعلاج حتى كتب الله لها النجاة.

حركت الطفلة داخلها مشاعر الأمومة فحاولت أن تستجمع قواها؛ وبرباطة جأش خضعت للعلاج من الإدمان لتنقذ نفسها وطفلتها، وتنسحب من دوامة الوحل الجارفة.

 بادئ الأمر نجحت في التخلص من إدمانها، وبدأت فصلاً جديداً من حياتها، ولكن سرعان ما تحول النجاح إلى انتكاسة لتقع مجدداً في فخ الهروين.

شيئا فشيئاً اشتدت معاناة رباب بين مُر الحاجة للمادة المخدرة ومُر التماس الرحمة والتوسل للحصول عليها، فكانت فريسة سهلة للابتزاز الجسدي تحت قهر الحاجة والعوز وعدم امتلاك المال فانصاعت مستنفذة ما بقي من وجودها وكيانها كإنسانة في سبيل الحصول على الهروين.

إقلاع وعودة

تطورت رباب في مراحل التعاطي من الاستنشاق إلى إبر الموت، ودخلت للعلاج في إثر ذلك مرات عديدة وصلت في مجموعها إلى 9مرات، تعود بعد كل مرة للتعاطي، ولم يكن دخولها المستشفى برغبتها أو محاولة منها للتخلص من الإدمان، بل كانت شقيقتها هي التي تدفع بها للعلاج.

بلغت مرحلة كان من الصعب على الممرضات العثور على شرايينها عند الحاجة لعمل تحاليل مخبرية؛ حتى أنها كانت تتطوع بسحب الدم بنفسها من مكان غائر في فخذها وهو المكان الذي تحقن فيه نفسها بإبر المخدر.

ولأنها لا تلبث أن تعود للمخدرات، كانت حياتها سلسلة من العذاب والإخفاقات والألم، فقد ترك المخدر أثره الكبير في حياتها فعندما كانت لا تتمكن من الحصول على الهروين تدخل في نوبات غضب عنيفة؛ تقلب كل شئ حولها في مزيج من الصراخ والاستغاثة؛ مما يدفع أختها الصغرى بخوف وهلع للاستنجاد بالإسعاف لأخذها إلى المستشفى مرة بعد أخرى.

وهكذا تستفيق بعدها منطوية على نفسها رافضة الحديث والطعام، حانقة على أختها، ومعتبرة ما قامت به خيانة لها لسجنها بالمستشفى حسب رأيها.

نقص المناعة

في يوم خال من السكينة استيقظت رباب وقد هدها التعب وأنهكها الإجهاد، وكأن كل خلية في جسدها تئن دون توقف، فراجعت المستشفى، ولكثرة شكواها طلب منها الطبيب إجراء تحاليل روتينية لمعرفة العلة، لكن الصدمة كانت أكبر وأعنف من ظنونها، لقد أخبرها الطبيب بلهجة باردة أنها مصابة بنقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

شعرت أن نظراته القاسية وحكمه عليها كان مجرداً من الرحمة وبلا أدنى تعاطف، دخلت بعدها في صمت مطبق وكأنها أفرغت من الحياة إلى الأبد.

وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك الكثير مما يمكن للمستشفى أن يقدمه لمريض الإيدز، كان ذلك قبل سنوات، وقبل التطورات الهائلة في علاج نقص المناعة المكتسبة، فكان الموت هو المصير الحتمي للمريض.

زاد حنقها على الدنيا كلها، ولعنت جنس الرجال كافة وحقدت عليهم وتعهدت أن لا تتورع عن إيصالهم إلى ما تسببوا به لها.

ورغم كل النصائح والتهدئة إلا أنها كانت مستعدة لإحراق العالم كله بغضبها؛ خاصة بعد أن أودعت سرها لأختها التي قابلتها بالرفض ورمي ملابسها ومنعها من تقبيل واحتضان ابنتها، مما جعل حالتها النفسية تسوء أكثر، وجعلها في خوف وقلق دائم من افتضاح أمر مرضها.

الزورة الأخيرة

كبرت طفلتها بعيدا عنها، أصبح عمرها 7 سنوات وبدأت تستفهم عن وضع أمها غير الطبيعي، فكانت دائمة السؤال عن السبب في بقائها في المستشفى بشكل دائم، وما المرض الذي يجعلها رهينة السرير الأبيض دون أن تحصل على إجابة.

 وفي الزورة الأخيرة خبأت الطفلة خلف فستانها ريحانة ربطتها بقلم مكسور، ركضت لوالدتها وقدمته هدية لتتذكّرها به، وارتمت في حضنها ودفنت وجهها في صدرها طالبة منها الشفاء والعودة للمنزل بسرعة، كلمات الصغيرة كانت كفيلة لجعل جميع من في الغرفة يبكون بصمت، تساقطت دموع الأم على وجه الصغيرة التي رفعت رأسها لتنظر لوجه والدتها مستفهمة، فادعت أنها قطرات من السقف وليست دموع أبدًا، ثم ودعت رباب طفلتها مستودعة إياها عند خالتها، مع وعد للطفلة بلقاء آخر قريب، لكن القدر شاء أن يكون ذلك اللقاء هو الأخير.

التربة المالحة

8 سنوات عجاف كانت كفيلة بسحقها جسدياً ونفسياً؛ يهول مرآها من عرفها، حيث تحولت من زهرة جميلة في مقتبل العمر إلى شبح امرأة، وكأن الزمن قد دار بعصا سحرية وحولها إلى عجوز هزيلة باهتة، تساقطت أسنانها وذبل وجهها وسحق الهروين كل جمالها.

في التربة المالحة لا يعيش الورد ولا يثمر الشجر، لم يكن ليريح جسدها المنهك سوى افتراش التراب.

 وبين جدران المستشفى الباردة لفظت رباب أنفاسها الأخيرة وحيدةً في فراشها بعمر 32 خريفًا، ضحية لأب مدمن طامع باعها ليطفأ نهمه وأنانيته البشعة في الحصول على المخدرات.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×