نورة.. العائدة من الموت.. إلى “ثمار الجنة”..! قصة فتاة شجاعة انتصرت على متلازمة غيلان باريه والذئبة الحمراء معاً في 7 أشهر
الدمام: ياسمين الدرورة
ما هي إلا أيام وانقلبت حياتها رأساً على عقب، فلم يكن شتاء 2019 كغيره رغم أنه بدأ اعتيادياً، كانت نورة خلاله مفعمة بالحياة، مقبلة على مرحلة جديدة وتخطط لدراستها الجامعية..
في ذلك الوقت كان القدر يخبئ لها خططاً أخرى ليست في الحسبان، حيث هجم المرض على جسدها حتى هدها تمامًا وشارفت على الموت، بل أخذت وقتاً طويلاً جدًا تطل عليه ويطل عليها، إلى أن كتب الله لها إذن العودة إلى الحياة.
نورة محمد العجلاني فتاة في عمر الزهور، للتو عبرت عتبة العشرين، تسكن مدينة الجبيل، وهي الابنة الثانية لأسرة سعيدة مكونة من 4 أخوة، وأختين صغيرتين.
في لقاء خاص بـ “صُبرة” حكت تفاصيل صراعها مع مرض تعرفت عليه قبل 5 سنوات.
تقول العجلاني “بدأت أشعر بالتعب والإرهاق الشديد بلا مبرر وكانت وطأته تزداد يوماً بعد يوم، أخذ نظري يخبو وأصبحت الرؤية صعبة؛ كنت أشعر بأنني أضعف وأفقد جسمي كل يوم أكثر، شئ يشبّه بالاحتضار”.
شعور بالوهن
بدأت نورة تفقد قدرتها على الحركة وتشعر بأن قواها خائرة وجسمها لا يقوى على القيام بأي مجهود، وما تستطيع فعله اليوم تعجز عنه غداً.
كل ذلك أدخل أمها في دوامة من الخوف والقلق، وعلى مدى 3 أيام كانت تأخذها إلى طوارئ أحد المستشفيات دون فائدة، فلم يتمكن الأطباء من تشخيص حالتها، فطلبت الأم من الطبيب إبقاء ابنتها في المستشفى، وألحت عليه لإجراء مزيد من الفحوصات الطبية كي يتوصلوا إلى علتها فيعالجوها، مكثت نورة بعدها أسبوعاً كاملاً في قسم التنويم، ظن الأطباء أنها تعاني من نزلة معوية، فلم يكن لديهم تفسير واضح لما يحدث.
لم تقتنع الأم بتشخيص الأطباء، خاصة أنها ترى ابنتها تذوي، ولاحظت عدم تمكنها من رفع يديها أو ساقيها، وكما ألحت على إدخالها المستشفى؛ طالبت بخروج ابنتها منه وعلى مسؤوليتها الكاملة، أخذت الأم ابنتها وهرعت بها إلى طوارئ مستشفى الملك فهد التخصصي، ولأنها كانت تراجع في المستشفى سابقًا بسبب إصابتها بالذئبة الحمراء، سهّل ذلك في إدخالها، وهناك تم استدعاء أطباء الأعصاب وتبين من خلال الفحص السريري عند الوخز أنها فقدت الإحساس في بعض أجزاء من جسمها، ومن خلال فحص نسبة الأكسجين بتحليل الدم الوريدي اكتشفوا أن التنفس تأثر لديها أيضًا.
اتسعت عينا الطبيب بتوجس وحرص، وطلب أخذ عينة من أسفل الظهر (خزعة قطنية)، كل هذه الفحوصات تمت بشكل عاجل وسريع في قسم الطوارئ.
تقول نورة “في وسط كل هذا الجلبة شعرت بالطمأنينة تغمر كياني، كنت أجهل ما يحدث تماماً، لم أبك أو أنهار كنت هادئة ومتماسكة، ربما هي رحمة الله بعبده أن ينزّل عليه الصبر والسكينة قبل أي ابتلاء”.
متلازمة غيلان باريه
لم يمض وقت طويل حتى تم تشخيص حالتها بأنها مصابة بمرض نادر يعرف بمتلازمة غيلان باريه وهو مرض أيضاً كالذئبة الحمراء، مرض مناعي لكنه يهاجم الجهاز العصبي في الجسم ويدمره مسببًا شللاً في أجهزته، تبدأ الأعراض بضعف ووخز في أسفل القدمين ثم تصعد باتجاه الرأس، وحين تخمد الهجمة تتلاشى الأعراض عكسيًا من الرأس نزولاً إلى القدمين.
يهدد هذا المرض حياة المُصاب في مراحله الحادة، حيثُ يُضعف عضلات الجهاز التنفسي ويتسبب في شللها، ويعتبر أحد المتلازمات النادرة للغاية، فيُصيب حالة واحدة إلى حالتين في كل 100 ألف شخص سنوياً.
كان الأطباء متفاجئين من حالة نورة حيث إن اجتماع الذئبة الحمراء ومتلازمة غيلان باريه في شخص واحد أمر نادر الحدوث بل هو شبه مستحيل، فكلاهما يصيب الجهاز المناعي.
ضعف التنفس
بدأ التنفس يتأثر أكثر، ودخلت في أثره العناية الفائقة لمدة 4 أيام، وأحست نورة بأنها تفقد جزءاً من حاسة التذوق مما يعني أن المتلازمة بدأت بالصعود إلى الأعلى بشكل متسارع، وما لبثت حتى تدهورت حالة رئتيها مما استدعى نقلها إلى قسم العناية المركزة مجدداً، أصبح بقاؤها على قيد الحياة مرهونًا بأجهزة التنفس الاصطناعي.
كانت هجمة المرض تزداد شراسة ولم يعد باستطاعة نورة تحريك حتى قسمات وجهها ورقبتها.
تصف نورة تلك المرحلة فتقول “كانت من أصعب الأوقات، عيوني مفتوحة لكني كنت أعجز تمامًا عن التحكم في بؤبؤ عيني ولا أستطيع توجيهه إلى اليمين أو اليسار، كنت انظر في اتجاه واحد فقط؛ كنت أرى وجوه أهلي عند زيارتهم وتلويحهم أمامي، عليّ أن أستجيب لكن لم يكن بوسعي ذلك، ورغم الألم النفسي الذي شعرت به حينها إلإ أنه كان الجزء الأسهل في حكايتي”.
أنا أسمعكم
تكمل نورة “كانت زيارة أسرتي تعطيني الأمل وتواسيني مع أني أصبح عاجزة أكثر في كل زيارة؛ لم يعد باستطاعتي تحريك فمي، أشعر بشفتي يابسة ولساني مر. كنت أستمع لأحاديثهم باهتمام، تمنيت لو كان بمقدوري إخبارهم بأنني أسمعهم، حاولت حفظ أحاديثهم وتذكرها؛ وعندما أعود للمنزل سأذكرهم بكل كلمة، كان أملي كبيراً رغم كل ما أعانيه.
لاحظ طبيبي الدكتور خالد الدرعان أن نبضات قلبي ترتفع عندما يزورني أهلي فقال لهم: نورة تسمع والدليل أن نبضات قلبها ترتفع عندما يكلمها أحد”.
في الغيبوبة
مع الوقت زادت حالة نورة سوءاً، ووصل الحال إلى أن أُطبقت العينان المفتوحتان، تقول “كان الأطباء يعتقدون أني في غيبوبة، شبه عمياء يكاد جفناي أن يُغلقا، مشلولة وكأني مقيدة في بئر مظلمة؛ كان الأمر أشبه بكابوس أتمنى أن ينقضي سريعاً”.
تضيف نورة “لكن بصيص الأمل كان يتسرب لي من الثقوب الصغيرة جداً، كانت الممرضات يؤدين واجبهن على أحسن وجه ويتعاملن معي كمريض فاقد للوعي، وعندما تقلبني الممرضات ينفتح جفني قليلاً وأشعر بسعادة لا توصف؛ يمكنني أن أرى المكان حولي والأجهزة، ما زلت أبصر ولم أُصب بالعمى، ها هي الأصوات في الغرفة تخبو وترتفع تؤنس وحدتي، أحيانا أسمع صوت صرخات وضوضاء يتضح لي بعدها أن المريض الذي بجانبي قد فارق الحياة”.
متوفاة دماغياً
كانت الهجمة الأخيرة للمرض شرسة جداً نشطت معها الذئبة الحمراء وجعل حالة نورة تسوء، مما استدعى إجراء تخطيط للدماغ، أظهر أن مقدار الوعي لديها 3/15، وهذه القراءة تدل على أن الشخص توفي دماغيًا؛ وفي اليوم التالي وقبل أن يتصل المستشفى بأهل نورة لإبلاغهم بذلك كانت القراءة تعود لطبيعتها ودرجة الوعي ترتفع لمعدلها الطبيعي، لذا كان يردد الأطباء أن ما يحدث مع نورة معجزة.
غياب الأهل
انقطعت الزيارات عن نورة فجأة وبدأ اليأس يتسلل إلى نفسها والسؤال الأكثر إلحاحاً في رأسها: أين أهلي؟
تقول “مرت أيام تلتها أسابيع ولا أحد يزورني، فضاء أحمر داخل جفني المطبقين، أحاول معه فتح عيني بصعوبة، والصمت المطبق حولي يبدد كل أمل، كثيرًا ما تساءلت لماذا لم أعد أسمع صوت أمي وغاب جميع أهلي هل يئسوا من حالتي وظنوا أني ميتة؟ بدأ القلق يتملكني ويسحق شعور الطمأنينة داخلي، شعرت بالموت قبل أن تحين ساعة الموت، اختفاء الزمان وتلاشي الحياة، بقيت أنا فقط وشعور الوحدة المظلمة”.
كانت جائحة كورونا وقتها قد بدأت موقفةً عجلة الحياة؛ تلتها فترة الحجر، ولكن أنىّ لنورة أن تعلم بما يحدث في الخارج..؟
أغمضي مرتين
مازالت فترة الحجر مستمرة، لا أحد يحدث نورة أو يلاحظ محاولاتها، أرخت عينيها في محاولة لفتحهما مرات عديدة وكأنها تحاول الاستيقاظ من النوم، لم تصدق الممرضة التي كانت في المناوبة ما شاهدته، حدثت نفسها لا يمكن أن تكون واعية، ربما ردة فعل لا إرادية. ولكي تتأكد مما رأت كلمتها بصوت مرتفع:
نورة إذا كنتي تسمعيني غمضي مرتين.. نورة إذا أنتِ بمستشفى التخصصي غمضي مرتين، فتزم نورة جفنيها استجابة للممرضة. وفيما يشبه المعجزة بدأ المرض يغادر جسدها، وفي الأيام اللاحقة أخذت نورة تحرك شفتيها ورقبتها.
وبعد أيام حاولت نورة التحدث لاختصاصية الجهاز التنفسي مستفهمةً عن التاريخ، تقول “حاولت أن أتكلم معها، لكنها لم تستطع سماعي ولا قراءة حركة شفتيّ، فاستعانت بزميلها الذي فهم ما أريد وصُدمت كثيرًا عندما علمت بأن التاريخ هو الرابع من شهر شعبان، هذا يعني أني مكثت هنا شهرين كاملين”.
لم تكن الفرحة لتُخطئ قلوب أهل نورة، فخبر استفاقة ابنتهم بعد أن وصلت إلى عتبة الموت كان يمثل هبة جديدة من الله.. وُلدت نورة من جديد، وسمحوا لهم بزيارتها مرة في الأسبوع، وفي الزيارة أحضر لها والداها جهاز “آيباد” حتى يتسنى لهم الاتصال بها، رغم أنها لا تستطيع الكلام بعد، لكنهم كان يكتفون ويسعدون بإيماءات رأسها وعينيها.
العودة من الموت
بعد سبعة أشهر بدأت رئتا نورة تعمل بالتدرُّج دون الحاجة إلى أجهزة، وبدأت الحياة تدب في جسدها من جديد، تحاول تحريك أصابع يدها في الفضاء كغصن مورق، وكأنها تنفض بيدها الموت الذي تربص بها لأشهر.
أخيراً ودعت نورة غرفة العناية الفائقة وممرضيها، وبمزيج من مشاعر النصر والرضا والامتنان عبّر الفريق الطبي عن سعادتهم فلم يكن يخطر على بال أحدهم أن نورة ستُلقي مرساتها على شواطئ العافية من جديد.
ثمار الجنة
انتقلت نورة إلى قسم التنويم بعدما استقرت حالتها وتم الاطمئنان عليها. وبالتدريج أدخل الطعام إلى نظامها الغذائي بعد أشهر من التغذية الأنبوبية؛ كانت تصف الطعام بأنه شهي يشبه ثمار الجنة.
فكرت بشوق كيف ستعود للمنزل وإلى حضن والدتها وضجيج أخواتها واختلجت الفرحة في قلبها، كانت كل حركة صغيرة تنجح في أدائها تعتبر إنجازاً كبيراً.
خريجة وعروس
وأخيراً خرجت من المستشفى وودعت جدرانه، حتى وإن كان على كرسي مدولب وبجسد هزيل، لتبدأ رحلتها في أقسام التأهيل وتستعيد ما فقدته من مهارات حركية.
وفي قسم العلاج الطبيعي واصلت جلساتها بجد ومثابرة محاولةً الاعتدال في الجلوس ثم حاولت النهوض، كان فريق التأهيل معها خطوة خطوة يعلّمها كيف تمرن كل عضلة بجسمها بشكل صحيح و مدروس كطفل صغير يتعلم الحركة، وشيئاً فشيئاً تمكنت من السير بثبات.
اليوم نورة خريجة أدب إنجليزي من جامعة حفر الباطن؛ تزوجت حديثا، ولها حياة تضج بالحياة وما عدا ذلك كان ذكرى فتاة شجاعة.
الحمد لله
الله يحفظها