أزمة المتحدث الرسمي في الإعلام السعودي ولادة المشكلة.. من الحلُّ
أعتقد أن الإعلام السعودي يجب أن ينتقد عمل الحكومة، وخطط الحكومة، أيًّا كان؛ لأن ذلك أمر جيد.
سمو ولي العهد
حبيب محمود
لا يجوز أن يكون هناك أي نوع من تضادّ بين المؤسسة الإعلامية الوطنية المستقلة، وبين أيّ جهاز حكومي. ما يجب أن يكون عليه الأمر؛ هو تكامل دور الإعلام المسؤول مع الأجهزة الحكومية، في شراكة يكون فيها الإعلام مساعداً على تحسين الأداء.
أيّاً كانت الصفة؛ “ناطقاً إعلامياً” أو “متحدثاً رسمياً” أو “مدير اتصال مؤسسي”؛ فإن الحلول التي أوجدتها الوزارات والأجهزة الحكومية والشركات لتنظيم تدفق المعلومات الإعلامية؛ قد تكون ولّدت مشكلة في الحقل الإعلامي نفسه…!
وهذه الورقة تضع توصيفاً للعلاقات التواصلية بين وسائل الإعلام من جهة، وبين مصادر المعلومات في القطاع العام على وجه الخصوص، وذلك من مُجريات العمل اليومي في الصحافة السعودية، وعبر تجربة عملية في ملاحقة الأخبار، وإعداد التقارير، وطرح القضايا.
المدة الزمنية الطويلة التي عشتُها في بلاط الصحافة السعودية؛ انتهت بي إلى بناء تصوّر عمّا يجري يومياً في المسألة الإعلامية، وبالذات في شقّها الرسمي الخاص أولاً، وثانياً في شقّها الشعبي المتصل بالشقّ الرسمي أيضاً، خاصة تلك الموضوعات التي يكون لجهاز رسميٍّ ما يدٌ فيها.
فالمعضلة؛ تكمن في توفّر المعلومة الرسمية التي تُستكمل بها الصورة، أو تُصحّح، أو تقدم إضافةً، بما يجعل من المادة الصحافية المنشورة مصنوعة بحذق وحرفية ونزاهة، استناداً إلى توازنها بين ما يتعارض من معلومات، أو يُحتاج إليه من معلومات في تحقيق الشفافية والوضوح.
تسعى الورقة إلى قراءة تجربة “المصدر الرسمي” الصريح، وأعني به ذلك “الفرد المؤهل” للإدلاء بمعلومة ممثّلاً للجهاز الذي يعمل فيه، بحيث تُستعمَل المعلومة في نشر مادة صحافية، على صيغة من الصيغ المهنية الطبيعية.
الظهور الأول للمصطلح
لعلّ أولَ ما ظهر في الإعلام السعودي من تعبير ذي دلالة على “اسم” و “صفة” لها علاقة بالمعلومات الإعلامية حصراً؛ هو ذلك الوصف الذي حمله اللواء منصور التركي، في 2004؛ حين ظهر وجهه التلفزيوني المؤثر، وصوته الواثق، وإفاداته المعلوماتية؛ في إيضاحات مواقف وزارة الداخلية إزاء الأحداث الإرهابية التي شهدتها المملكة، وقتها، وما بعدها أيضاً.
“المتحدث الأمني لوزارة الداخلية”.. هكذا ظهر وبرز وأثّر إعلامياً، وقدّم تجربة ناجحة في وزارةٍ يُفترض بها أن تكون ذات حسابات متحفظة في الإفصاح عن المعلومات. كانت موجة الإرهاب تتصاعد في الداخل السعودي، ما جعل المملكة مغناطيساً شديد الجذب لوكالات الأنباء العالمية والفضائيات الدولية. وبات لزاماً على الحكومة أن تكون أكثر شفّافية في التعاطي الإعلامي مع مجريات الأحداث.
وبرز التركي ليُكمل الصورة من زاويتها الرسمية، بعد تشكّلها من الزاوية الميدانية. فكلّ حدث إرهابي يقع؛ تنتشر صوره ومقاطع تصويره في وسائط الإعلام المحلية والدولية؛ وهو ما يفرض شرح الحدث من زاوية الجهة المتعاطية معه. وكانت الداخلية السعودية؛ هي الأكثر تماسّاً، والأكثر إحاطة، بحكم سياديتها، وتنوّع عملياتها، وبحكم ـ أيضاً ـ قدرتها على استقاء المعلومات من الوزارات الأخرى، إذا استدعى الأمر.
كلّ تفجير له ضحاياه، ووراءه منفذون، وذو صلة بجهازٍ ما. وبالتالي؛ فإن “الداخلية” قادرة على استيعاب الصورة، وفهم أبعادها، ومن ثمّ الإدلاء بتصريحات مسؤولة لوسائل الإعلام.
نجح “التركي” بكاريزميته، ونجحت الداخلية بدينماكيتها؛ في إزاحة حواجز المعلومات عن وسائل الإعلام. فراح يظهر في الفضائيات كاشفاً عمّا يحدث، وعمّا يتّضح، ومُخبراً بمن هو مسؤول، ومن تأذّى، ومن تضرر.
ربما؛ كان نجاح التركي؛ وراء “تعميم” التجربة، لتتسع تجربة “المتحدث الرسمي” لأحداث الأمن العام في شُرط المناطق، ثم المرور، فالدفاع المدني، فأمن الطرق، فحرس الحدود.
وعن تجربة مهنية شخصية واكبت المستجدات والتحوّلات ودخلت في طبيعة التواصل الإعلامي مع المتحدّثين الرسميين ـ في الأمن العام تحديداً ـ يمكنني وصف ما قدمته وزارة الداخلية بأنه كان نموذجاً استفادت منه وزارات وأجهزة حكومية أخرى، على نحو من الأنحاء..!
أخذ مصطلح “الناطق الإعلامي” أو “المتحدث الإعلامي” يتوسع في شُرط المناطق الإدارية في المملكة، وفيه أجهزة الأمن العام، وفي إدارات ومؤسسات حكومية أخرى، وتتوسع معه عمليات النشر والردّ والإيضاح السريع.. والمتفاعل.
معلومات الجريمة أسهل
من تجارب المرحلة التي عشتها في صحيفة “الوطن” بين عامي 2005 و 2011، وصحيفة “الشرق” حتى 2017؛ كنا نتمازح، أحياناً، بالقول: إن الحصول على معلومات جريمة قتل، أسهل ـ بكثير ـ من الحصول على معلومات ذات طبيعة خدمية من أكثر الوزارات المدنية..!
في المنطقة الشرقية تحديداً؛ كان يوسف القحطاني (اللواء متقاعد لاحقاً)؛ على مستوىً عالٍ من الديناميكية في التفاعل مع الصحافيين. ومن موقعه متحدثاً رسمياً لشرطة المنطقة؛ كان يستجيب للاتصالات مهما كان الوقت متأخراً، ويبذل جهده في توفير الإجابات في أقصر وقت ممكن، وكانت لديه آلياته في استقاء المعلومات من مدراء شُرط المحافظات والمدن، على نحو عمليٍّ ينسجم مع ضيق وقت الصحافيين المحاصرين بمواعيد التسليم والطباعة الورقية والتوزيع.
مدير العلاقات
كان “المتحدث الرسمي” تطوّراً نوعياً لما كان عليه الوضع في بداية التسعينيات وما قبلها؛ حين كان مدراء العلاقات العامة واجهة إعلامية مختصة بإنتاج معلومات الأجهزة الحكومية. ويمكن القول إن صحافة البيانات ـ عبر الفاكس ـ انتعشت بفضل مستوى النشاط الذي قدّمته إدارات العلاقات العامة في الوزارات والإدارات العامة في المناطق والمحافظات.
بعض إدارات العلاقات العامة كانت تُنتج مطبوعات دورية وشهرية، وبعد دخول الإنترنت تطوّرت المطبوعات الورقية إلى مواقع إلكترونية.
وراهناً؛ يمكن إضافة الحسابات الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالذات في منصة “إكس” التي بالكاد لا تجد لجهاز حكومي حساباً فيها.
جميع هذه الأنشطة؛ تعبّر عن وجهة نظر مؤسسية، ذات طابع إخباري، أو توعوية، أو تثقيفي، ويخدم ـ في النهاية ـ المؤسسة التي ينتمي إليها. وذلك طبيعيٌّ جداً.
وهذا كله؛ يسهّل على العاملين في الصحافة الاطلاع على نشاط المؤسسات الحكومية، واتخاذ القرارات اليومية المتصلة بملاحقة الأخبار، ومتابعة الأحداث، بفرز ما يمكن أن يكون “معلومةً” من الوجاهة إيصالها إلى الناس، عمّا يمكن وصفه “إنشاءً عاماً”، أو معلومات “غير مفيدة”.
وكذلك بالتفاعل مع المحتوى وتطويره وربطه بجوانب أخرى، عبر سؤال المصدر ـ نفسه ـ عن جوانب غير مذكورة فيه. أو بمتابعة موضوعه على النحو الذي يُوضح الصورة، من خلفية الحدث وطبيعته وتاريخيته، وبالذات الجانب الأرشيفيّ الذي ما زال مهماً جداً في تغذية الأخبار ذات الجانب المعلومات الأحاديّ، أي حين يكون البيان الرسمي فقيراً في الحديث عن الموضوع من جوانب مختلفة، ويركّز على جانب واحد، أو جانبين.
بالمحصّلة، وبقدر اختلاف كلّ حالةٍ عن أختها، فإن المؤسسات الحكومية لديها تدفٌّق إعلامي يصلح خامةً لإنتاج محتوى إعلامي، عبر المؤسسات الإعلامية القائمة، كلّ مؤسسة على قدر رؤيتها وديناميكيتها، وإمكانياتها البشرية والفنية والمالية.
إعلام الاتجاه الواحد
لكنّ هذه الآلية اليومية؛ أنتجت مشكلات تكاد تكون مُقلقة في المؤسسات الإعلامية. قد يكون مردّ المشكلات هو السياسة التي تتبعها المؤسسة الحكومية، وقد تكون في الأفراد القائمين على إنتاج المحتوى الإعلامي في المؤسسات. كما قد تكون في الحالة المرتبكة في المشهد الإعلامي، وبالذات في شقه الإلكتروني، لكون أغلب الصحف الإلكترونية في حكم المؤسسات الصغيرة، من الناحية الاقتصادية.
هناك تحوّل في المسمّى الوظيفي ـ المصطلح ـ من “مدير علاقات”، إلى “متحدث رسمي”، و”مدير اتصال مؤسسي”، إلا أن هذا التحول لم يُصاحبه تحوّل يُضارعُ ما تتطلبه ديناميكية النشر.
ولعلّ أهمّ ما تواجهه المؤسسات الإعلامية؛ هو إعلام “الاتجاه الواحد” الذي ربما تصرُّ عليه بعض المؤسسات، أو لنقل القائمون على إعلام المؤسسات. فبقدر ما تُنتج هذه المؤسسات من تغريدات وبيانات ومقاطع فيديو وتصاميم لإخبار الناس بجهودها وإنجازاتها؛ فإن الأمر يقتصر على ذلك فحسب، مكتفيةً بما قدّمت، دون وجود تفاعل مع ما يُطرح من أسئلة استكمالية من قبل الصحافيين.
عملياً؛ ثمة واقعٌ يكاد يقول إن المتحدث الرسمي، أو مدير الاتصال المؤسسي، يُعطيك الأخبار، لكنه لا يردّ على الأسئلة؛ غالباً. وحين يواجه سؤالاً خاصّاً من مؤسسة إعلامية؛ فإنه ـ غالباً أيضاً ـ ما يلجأ إلى إصدار بيان مفتوح على كلّ المنصّات، لتنشره المؤسسات الأخرى.
وبهذا تخسر المؤسسة ـ السائلة ـ أفضلية المبادرة، والسبق، والانفراد.
ولهذا النوع من الآلية تبعاته على أداء المؤسسات الإعلامية التي تُضطرّ ـ غير راغبة ـ إلى العمل وفق الإعلام الأحادي، بصرف النظر عن طموحاتها النوعية في ملاحقة الأحداث، ونشر التصريحات الخاصة.
قد يحدث ذلك مع التحقيقات، كما يحدث مع الأخبار التي لا يمكنها الانتظار.
جهة مستقلة
على نحو من الأنحاء؛ كأن إعلام الاتجاه الواحد يحاول فرضَ الحدود المسموحة للنشر. هو لا يفعل ذلك بالتأكيد؛ لكن هناك في العاملين في الإعلام؛ من سوف يرى هذه الحدود الوهمية غير الموجودة أصلاً. فيتوقّف عند حدود مضمون نصّ البيان الرسمي، أو الخبر، أو التغريدة.
بعض العاملين في الإعلام “يتوهّم” أن مرجعية النشر تعود إلى الجهة التي بثت الخبر أو البيان أو التغريدة.
والحقيقة هي أن مرجعية النشر تعود إلى التشريعات الإعلامية المعمول بها في المملكة، والجهة المشرفة على المؤسسات الإعلامية هي وزارة الإعلام.
ومنذ أواخر شهر صفر الماضي؛ قرر مجلس الوزراء أن تكون هيئة تنظيم الإعلام هي الجهة الاعتبارية المسؤولة عن تنظيم الإعلام والأشراف عليه.
وهذا يعني أن المؤسسة الإعلامية جهة مستقلة عن أي جهة أخرى تنشرُ أخباراً أو بيانات أو تغريدات. وتمارس المؤسسة الإعلامية مسؤولياتها في ضوء التشريعات والتنظيمات. وفي المبدأ عليها التزام الصدق والحقيقة والمسؤولية القانونية. بحيث لو صدر عنها تجاوز؛ فإنها تخضع لما يخضع إليه كلّ فرد ـ أو جهة ـ في التقاضي، وتُمكّن من الدفاع عن نفسها.
وليس في هذا ما يُخيف بالطبع؛ فالحريات الإعلامية، مكفولة رسمياً.
حرية التعبير
في 20 شوال 1402؛ صدر أول تشريع أكثر وضوحاً وتفصيلاً للسياسة الإعلامية في المملكة العربية السعودية، وقد صدرت “السياسة الإعلامية”، بقرار من مجلس الوزراء حمل الرقم 169، وتنص المادة 26 منه على أن “حرية التعبير في وسائل الإعلام السعودي مكفولة ضمن الأهداف والقيم الإسلامية والوطنية التي يتوخاها الإعلام السعودي”.
ومضمون هذه المادة موجود، أيضاً، في مقدمة “الباب الثالث” من نظام الإعلام الذي ما زال قيد الدراسة. وهذا الباب معنيٌّ بما يمكن وصفه بـ “محظورات النشر”، وهو يتقاطع ـ بتفصيل أكثر ـ مع مضمون المادة 9 من نظام المطبوعات والنشر الذي ما زال سارياً، وكذلك مضمون المادة 15 من اللائحة التنفيذية لنشاط النشر الإلكتروني التي ما زالت سارية أيضاً.
وقد توسّع مضمون “الحرية” في الإعلام السعودي، بشكل أكثر دقة ووضوحاً، في تصريحٍ له وزنه النوعي، على لسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حين صرّح قائلاً “أعتقد أن الإعلام السعودي يجب أن ينتقد عمل الحكومة، وخطط الحكومة، أيًّا كان؛ لأن ذلك أمر جيد”. وقد نشرت مجلة “أتلانتيك” هذا التصريح ضمن حوار مطوّل.
ثم أعادت نشره وكالة الأنباء السعودية “واس”، بتاريخ 30 رجب 1443 هـ الموافق 3 مارس 2022م. وفي إعادة النشر عبر منصّة الإعلام الرسمية الأولى؛ تأكيدٌ لخطاب الحريات الإعلامية. ليس هذا فحسب؛ بل إن وليّ العهد يجعل من نقد مشاريع الحكومة “واجباً”، لا “خياراً”.
وبالطبع لا يمكن القيام بهذا “الواجب” إلا بأخذ التشريعات بعين الاعتبار، وبالذات “السياسة الإعلامية”، وما يتصل بها من تنظيمات، خاصة بعد صدور أنظمة مكافحة الجرائم المعلوماتية، ولائحة الذوق العام، وحماية الملكية الفكرية، وفرز التخصص النوعي في القضايا الإعلامية، وإعادة تنظيم لجان النظر في المخالفات الإعلامية.
وفي هذه الحزمة من التشريعات والتنظيمات؛ ما يكفي لفهم ضوابط النشر، على المستوى القانوني في الحدّ الأدنى.
قد يكون للحديث صلة