قبل 67 سنة.. مات الحمار فواجه 3 شبّان الموت في “مقطع تاروت” عبدالعزيز العماني سرد القصة في مقال نشرته صحيفة "اليمامة"
القطيف: صُبرة، خاص
في مقالة غاضبة طوتها صفحات جريدة اليمامة منذ ما يزيد عن 65 سنة، كتب عبدالعزيز أحمد العماني قصته المؤلمة في عبور المقطع الفاصل بين جزيرة تاروت ومدينة القطيف.
وللدقة فهي ليست قصته وحده بل قصة سكان الجزيرة كلهم، حيث تحكي همهم المستمر، وألمهم الذي يتجدد كل يوم، قبل أن يُنفذ مشروع الجسر الأول الذي يشكّل الآن طريق أحد.
تاروت.. الجزيرة الطافية على زرقة الماء من جهاتها الأربع، كانت تكابد العزلة إلا حين يشهق البحر فيبين بياض قاعه إيذانا بوصل موقوت، وبين شهيق البحر وزفيره ضاعت أرواح كثيرة أخطأت في حساب المدة بين هذا وذاك.
وبسبب هذه الكثرة تعالت الأصوات، خاصة بعد صدور أمر ملكي عام 1373هـ بإنشاء جسر يصل الجزيرة بمدينة القطيف، حيث رأى السكان بوادر الاشتغال بالتنفيذ لكن العمل تعطل فيه سنوات، مرت على جلود المنهكين كأنها الدهر.
يحكي العماني مغامرته مع 3 شبان أرادوا ذات يوم أن يعبروا المقطع بواسطة (القاري)، وهي عربة يجرها حمار ليتمكنوا من شراء احتياجاتهم من سوق القطيف الواقعة على الضفة الأخرى. ومن قلمه نستحضر المشهد اليومي لسكان الجزيرة النائية بمقاييس ذلك الوقت.
يقول “كنت العام المنصرم مع ثلاثة أشخاص لا يقل عمر كل واحد منهم عن العشرين سنة، كلنا شبان في مقتبل شبابنا والحمد لله، وما أحلى الشباب – تقلنا عربة يسحبها حمار ونحن قاصدون مدينة القطيف لنشتري مواد الغذاء الكفيلة بمعيشتنا”.
يشير العماني في قوله “العام المنصرم” إلى عام 1378هـ، أي قبل نشر مقالته بسنة، كما يوضح أن غدر البحر الذي قد يهيج فجأة لم يقتصر على الشيوخ والأطفال، بل حتى قوة الشباب لا تصمد تجاهه.
مصارعة الموت
وفي الجزء التالي من كلامه يصف العماني كيف بدأت الرحلة، وكيف تحول الوضع إلى خطر حين توسطوا البحر “أخذ الحمار يجري بكل همة ونشاط، حتى تعب وانتهى بنا إلى موضع رقى فيه الحمار على وجه البحر وهو يرسل أنفاسه الأخيرة يخرجها بزفرات شديدة من قلبه حتى مات”.
ومن هنا بدأت الرحلة الحقيقية في ميزان الشباب، لكنها لم تكن لمرسى ولا لمدينة، إنما هي رحلة بذلوا فيها أقصى ما يستطيعون للوصول إلى شاطئ النجاة والفرار من موت وشك.
يكمل العماني رسم اللحظات التي أصبح فيها نفس الهواء عزيزاً “انقلبت بنا العربة فوقعنا في البحر، وكانت الرياح شديدة والأمواج تضطرب، وبقيت العربة هائمة في عرض البحر، وبقينا نحن في البحر تقذفنا الأمواج من جهة وتردينا إلى جهة أخرى أدهى وأشد.
وكان لزاماً علينا أن نسبح حتى نتعب، ونعوم في البحر حتى تنقطع أنفاسنا، فنخرج حتى نجدد الهواء، هكذا أمضينا أكثر من ساعتين ونصف الساعة نبحث عن مرسى فنؤمن فيه حياتنا”.
الأمل في جذوع النخل
حين نكون في شدة يتغير حساب الزمن، فكل ثانية بسنة وكل ساعة بعمر، وحين يُمتحن الصبر يُفرغ الناس عما اختزنوه من إيمان، ويروي العماني المشهد الأخير من قصة استمرت 6 ساعات لا تشبه الساعات إلا في اسمها، كادت تطوي مع لحظاتها حياتهم إلى أن شاء الله لهم النجاة، وأن يطول عمر أبطالها فيرووها لنا، ولنقرأ الخاتمة كما خطها صاحبها “مع علمنا الأكيد بمصيرنا المحتوم.. الغرق، اللهم إلا بقايا أشلاء من الإيمان بالله، طلبنا النجدة فلا سامع ولا مجيب إلا الله”، “فقذفتنا الأمواج على أعمدة من نخل مثبتة في قاع البحر للإرشاد، فتمسكنا بها ومكثنا أكثر من ثلاث ساعات ننتظر البحر أن يجزر فهدأت الرياح وتلاشت قوة الأمواج، فسرنا والبحر بالغ إلى أفواهنا حتى انتهينا إلى الساحل بعد أن أنهك التعب قوانا وذهب كل ما خرجنا به من مال وغذاء من بلادنا، وصلنا الساحل ونحن والحمد لله عراة، وذهب كل شيء حتى قوة الاتزان”.
هذه قصة من مئات القصص وربما آلافها التي عاشها سكان جزيرة تاروت قبل أن يفتتح الجسر في شهر محرم من عام 1382هـ.
مقطع تاروت كما كان قبل الجسر (أرشيف عبدالرسول الغريافي)
القصة كما وردت في صحيفة اليمامة في العدد 196 بتاريخ 14/5/ 1379هـ
جزيرة – تاروت – يقطنها أكثر من عشرين ألف نسمة يعيشون في جو مليء بالرعب والفزع لا يجدون سبيلا للطمأنينة من الخطر الذي يهددهم حتى في سلامة أرواحهم وممتلكاتهم وإن وضع حد لهذا الخط وهذا التهديد هو مد جسر لا أقل ولا أكثر يصل الجزيرة بمدينة القطيف، وهذا الجسر يمتد في عرض – المقطع – الذي كتب فيه الهلاك والدمار على عامة سكان هذه الجزيرة، حتى ولن يمض شهر إلا ونسمع فيه أخباراً موحشة كوقوع البضائع في هذا المقطع نتيجة لغرق حمار أو موت أشخاص غرقوا في وسط البحر، وراحوا ضحية سمينة لجسر رخيص بالنسبة لروح حمار فكيف بالنسبة للأرواح البريئة الغالية والممتلكات الثمينة التي ذهبت هدية في عرض البحر، وفعلا كنت العام المنصرم مع ثلاثة أشخاص لا يقل عمر كل واحد منهم عن العشرين سنة، كلنا شبان في مقتبل شبابنا والحمد لله، وما أحلى الشباب – تقلنا عربة يسحبها حمار ونحن قاصدون مدينة القطيف لنشتري مواد الغذاء الكفيلة بمعيشتنا، أخذ الحمار يجري بكل همة ونشاط، حتى تعب وانتهى بنا إلى موضع رقى فيه الحمار على وجه البحر وهو يرسل أنفاسه الأخيرة يخرجها يزفرات شديدة من قلبه حتى مات – بقينا نحن في العربة وهي تتمايل بنا ذات اليمين وذات الشمال ونحن واجمون الا عن طلب النجدة من الله . وقد استولى الخوف على نفوسنا، وكل واحد منا يفكر في أمه وهي تبكي عليه أو يفكر في اليتامى التي سيخلفها بعد موته ويتصورها مادة يدها تطلب المعونة على أمرها، هكذا كانت الحال.
انقلبت بنا العربة فوقعنا في البحر، وكانت الرياح شديدة والأمواج تضطرب، وبقيت العربة هائمة في عرض البحر، وبقينا نحن في البحر تقذفنا الأمواج من جهة وتردينا إلى جهة أخرى أدهى وأشد.
وكان لزاماً علينا أن نسبح حتى نتعب، ونعوم في البحر حتى تنقطع أنفاسنا، فنخرج حتى نجدد الهواء، هكذا أمضينا أكثر من ساعتين ونصف الساعة نبحث عن مرسى فنؤمن فيه حياتنا مع علمنا الأكيد بمصيرنا المحتوم.. الغرق، اللهم الا بقايا أشلاء من الإيمان بالله، طلبنا النجدة فلا سامع ولا مجيب إلا الله، حيث قدر لنا الحياة رغم تعطيل هذا الجسر ورغم من أرادوا أن يجعلوا هذه الجزيرة ألعوبة بسكانها، فأحرموها حتى من مد هذا الجسر فقذفتنا الأمواج على أعمدة من نخل مثبتة في قاع البحر للإرشاد، فتمسكنا بها ومكثنا أكثر من ثلاث ساعات ننتظرالبحر أن يجزر فهدأت الرياح وتلاشت قوة الأمواج، فسرنا والبحر بالغ إلى أفواهنا حتى انتهينا إلى الساحل بعد أن أنهاك التعب قوانا وذهب كل ما خرجنا به من مال وغذاء من بلادنا، وصلنا الساحل ونحن والحمد لله عراة، وذهب كل شيء حتى قوة الاتزان ..
وقد عنت حكومتنا الرشيدة بأمر الجسر ودرسته دراسة وافية وقررت إنشاءه تنفيذاً لأمر جلالة الملك المعظم، الذي نشرته – أضواء من الفجرالجديد في البلاد السعودية – في الحلقة الأولى لعام ١٣٧٣ تحت عنوان تعبيد الطرق وهذا نص ما نشرته ، كما أمر جلالته:
الشروع في بناء جسر فني يصل جزيرة تاروت وبلدتها بالقطيف لتتم بهذا الجسر سهولة المواصلات لسكان المنطقة عند مد الجسر وزيادته.. حقيقة بدأ العمل في إنشاء طريق وذلك بدفن البحر عوضا عن إقامة جسر حسبما أمر جلالة الملك، ولكن حتى هذا الطريق لم يكتب له النجاح، حيث دفن نصف الطريق بالحجارة والرمل وأهمل النصف الباقي، الأمر الذي ترك المجال لأمواج البحر أن تلعب فيه، وهكذا تحطم ما شرع به نتيجة الأعمال وعدم الاكثرات ورغم التكاليف التي صرفتها الخزينة عليه.
ونعود لنتساءل لو ذهبنا ضحية هذا الجسر من المسؤول يا حضرات هيئة المشاريع العمرانية؟ من المسؤول عن الأرواح العزيزة التي فاضت في المقطع طوال السنوات الماضية؟، وعن الأموال التي أخذتها الأمواج إلى اللارجعة؟ من المسؤول عن أكواخ الفقراء والأرواح التي فارقت الحياة نتيجة الحريق التي تحدث في هذه الجزيرة حيث تعثر المواصلات الأمر الذي يحول دون وصول مطافئ الحريق، من المسؤول عن أرواح الأطفال أو المرضى الآخرين عندما تفيض أرواحهم بين تعثرات العربات التي تجرها الحمير وأمواج البحر عندما ينقلون للاستشفاء في أحد المستشفيات في المدن المجاورة، وبالتالي من المسؤول عن سلامة أرواح سكان هذه الجزيرة المحرومة حتى من مد مثل هذا الجسر الذي يعتبرونه غاليا بالنسبة لسكان الجزيرة.
عبد العزيز أحمد العماني
اقرأ أيضاً
صور ووثائق نادرة: مشروع جسر تاروت فشل في بدايته وتعطّل 10 سنوات
كان الآباء بسردون كثيراً من معاناتهم ، وأسطورة أبو مغوي ، بدون تفاصيل للأحداث ، أما قصة الأخ عبد العزيز تسطر وتفصل جزءاً ، يسيراً من ماكان يعانيه أهلنا قبل ٦٠ عاماً وأكثر ، وياله من مشهد مثير ، شاء الله لهؤلاء الأصدقاء النجاة من قضاء وقدر ليتبدل إلى قضاء وقدر آخر ، والحمد لله على سلامتهم.