بيت عزيزة ذاكرة مكان.. سيرة أم صلّبتها الحياة
حبيب محمود
كان بيتها؛ أولَ مكانٍ أشهدُ فيه مشهد “نحر” رضيع بـ “قلَم قَدُوْ”. إنه مشهدُ تمثيلٍ تؤدّيه النساء في عاشوراء. وفي الأداء؛ يُختارُ رضيعٌ موجود بين النساءِ، وتتولّى “المُلّايهْ الكبيرة” نحره، فيلتهبُ المأتم بالعويل. وما يجري في مثل هذا المشهد؛ هو نوعٌ من “مَسرحة” بِضع تفاصيلَ من واقعة كربلاء، ومع “قلم القدو ـ السيف” يبرز مقتل عبدالله الرضيع في حجر أبيه.. الحسين..!
بعضهنّ تستخدم سيفاً؛ فإذا عزّ السّيفُ قام “قلم القدو” مقامه..!
وأول ما شاهدتُ من ذلك؛ كان في “بيت عزيزهْ”، في عصرية عاشورائية لم يكن يهمّني منها إلا أن أجد أمّي. ولأنّ “عزيزة” في بيتها “عَشْرةْ عاشُورْ” سنوية؛ فإن من السهل أن أجد أمّي وسط زحام النساء. وفي هذا البيت أيضاً “عادة” أسبوعية نسائية أيضاً على مدار العام.
الشجر هو موقع عين الجويهرية الكبيرة، وعن يساره بيت “عزيزة”. تاريخ الصورة 7 يونيو 2013
بيت يوسف
واقع الأمر؛ هو أن البيت عُرف باسم “بيت يوسف”. وأبناءُ جيلي (مواليد أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) لم يعرفوا “يوسف”. فقد توفّي قبل إدراكنا. كنا نعرف والده “أبو يوسف” الذي كان له دكان في بيته القريب من بيت ولده. ونعرف “وهب” و “هاني”، “أولاد أبو يوسف”، وهم من أبناء الحي.
إلا أن نسوة الحيّ “غلّبْن” اسم البيت على أرملة المرحوم يوسف.
بيت يوسف، أو بيت عزيزة، بُنيَ بطريقة هندسية تقليدية، لكنها تُشبه بيوت “لـكْباريّهْ”. ولا أتذكّر أنني شاهدتُ بيتاً خارج مُسوّرة العوامية مثله في التصميم. للبيت مدخل من الشرق، ينفتح على “ردهة” واسعة، وفي الدور العُلوي إيوانٌ (لَيوان) مُسيَّج بخشب، ويُطلّ الإيوان على ردهة الدور الأرضي.
أما الطلاء؛ فكان سماويّاً فاتحاً، شِرْحاً، مريحاً، مُرحّباً.
وهذا التصميم ليس موجوداً إلا في بيوت الشخصيات الكبيرة في العوامية.
موقع عين الجويهرية الكبيرة ـ تاريخ الصورة 7 يونيو 2013
الجويهرية
وكان البيت، أيضاً، رابع أربعة بيوت تُحيط بعين “الجويهرية الكبيرة” مع بيت “معيوف” من الجنوب، وبيت “التاجر” وبيت “الستراوي” من الغرب، وبيت “القاسم” من الشمال.
أما من الشرق فكانت العين تنفتح على شارع ترابيّ. وكلّ هذا المحيط الصغير كان يُسمّى “فريق لـِجوَيْهرية”، وهو ملاصق ومتداخل مع “فريق لـِرْحَيْل” و “فريق الزّوَاوْرَهْ” و “فريق كربلاْ”.. ثم سُمّيَ كلُّ ذلك باسم الفريق الأخير، فيما بعد.
وعين “الجويهرية الكبيرة”؛ هي أختٌ لـ “”الجويهرية الصغيرة” التي كانت تقع على طرف القرية، عند بيت “عبدالنبي” المؤدّي إلى الطريق الزراعي المُجنِب، نحو “المنصوري” و “المليح”.. وصولاً إلى “سيحة” الجارة.. قرية القديح..!
“الجويهرية الكبيرة” انخسفتْ مبكّراً. أبناء جيلي لم يُدركوا صفاء مائها، ولم يُشاهدوا إلا اللون الداكن فيه. ومع ذلك؛ كان بعضنا يلوذ بها في “لواهيب” الصيف. ثم غرق فيها أصغر أطفال “بيت مُرّاشد ـ بن راشد ـ أبو ارْشيد”، وكان اسمه أحمد، فسُوّرت العين بـ “الطابوق” لمنعنا منها.
ومع ذلك؛ وجدنا سبيلاً إلى الوصول إليها، عبر “زرنوق” ضيّق جداً، بين بيت “معيوف” وبيت “عزيزة”. وحتى هذا الـ “زرنوق” أغلقوه بالطابوق أيضاً. ولكن هيهات هيهات منّا الامتثال.
كنّا “نطربق” في العين ونمرحُ على ما فيها من “شُؤم” بين سكان الحي..!
وكانت “عزيزة” تنهرنا، إمّا منزعجةً منا، أو خائفةً علينا من “شؤم” العين المخسوفة. وربما كان ابنها “محمد” و “ابْناوْها ـ ابن زوجها” فتحي معنا.
على كلّ حال؛ فإن “عزيزة” لم تكن ترتاح ـ ألبتة ـ لعصريات الصبية في العين الآسنة التي أخذت طفلاً، قبل سنواتٍ قليلة، ولعلّ “عزيزة” كانت تظنّ أن العين “طالْبة روح” أخرى.
وكان هذا شأن العيون “المشؤومة” في القطيف. غرقُ الأطفال ليس من الحوادث، بل هو مما يُحال إلى غيبياتٍ تردُّ التفسير إلى أن في العين “راعية ـ جنية”، وهي من تطلب الأرواح؛ فيغرق الناس فيها، بين آونة وأخرى.
زرنوق “زقاق” يفصل بين “بيت عزيزة” وبيت ملا أحمد آل زايد
موقع عين الجويهرية الصغيرة. تاريخ الصورة 17 أبريل 2016
الكريمة.. الصلبة
ربما حملتنا رعونة الصغار؛ على الضيق من “أم علي عزيزة”.. ربما ظنناها “شرّية” لأنها تنهانا عمّا نُحبُّ. هكذا كنّا، وما هكذا كانت تلك المرأة. في داخلها كائنٌ مهيبٌ بين نساء الحيّ فعلاً، ومختلفٌ أيضاً. وكنا نشاهدها جالسة عند باب بيتها، في حفرة “الدَّيْنمَهْ” تغيّر “الفحمات”، وهذا من شغل الرجال، حين تتعطل مضخة ماء الخزان..!
عاشت “عزيزة” في هامش من هوامش الحياة في العوامية، مثلها مثل نساء القرية التي صارت بلدة كبيرة. وفي ذلك البيت قضت حياتها. وبعد نزع ملكية نقلها أبناؤها إلى حي “الجميمة”.
قبل أكثر من عام؛ زرتُها برفقة إحدى بناتي.
يا الله.. تلك المرأة الصلبة التي كانت تزجرنا عن السباحة في “الجويهرية”؛ تضاءل جسدها كثيراً، وانحنى عمود ظهرها. استقبلتنا بـ “مشمر” مزركش، واستضافتنا على طريقة من يريدك أن تأكل كلّ ما يليك من كرمها، وألّا ترحل إلا بملء أكياس من العصيرات والفواكه والمعلبات. تماماً، كما فعلت معي مررتُ ببيتها القديم في 29 يوليو 2013، وصادف ذلك ذكرى استشهاد الإمام علي.. أعطتني كيساً من “البركة”.
أمس؛ أرسل إليّ الصديق زكي الصالح نبأ وفاتها المنشور في الزميلة “القطيف اليوم”. وذيّل النبأ بـ “ماتت عزيزة”.. صدُمتُ بفقدها. وصُدمتُ لأنني أعرف اسمها الحقيقي للمرة الأولى: فاطمة عبدالله علي الفرج.
رحمها الله، ورحم موتانا وموتى المسلمين.
بيت عزيزة إلى يمين الصورة ـ تاريخ الصورة 7 يونيو 2013
عيون مندثرة في العوامية..
تحديد مواقع عيون جوفية في العوامية، من محيط المنطقة القديمة، تاريخ التحديد من “قوقل” في 3 مايو 2016:
1 ـ عين الزارة: حي الزارة.
2 ـ عين لا أعرف اسمها: لكنني أدركتُها “خسيف”، وهي صغيرة.
3 ـ عين الخضيرة: حي الخضيرة، وفيها تعلّمت السباحة.
4 ـ عين المصونة “المسيُونة”: داخل الديرة، غرباً.
5 ـ عين الفتيّة: حي الفتية، جنوبي برج بوابة المسورة.
6 ـ عين الجويهرية الصغيرة: شرقي حيّ الرحيل.
7 ـ عين الجويهرية الكبيرة: شرقيّ ساحة كربلاْ.
طعام كانت توزعه “عزيزة” في مناسبات أهل البيت، عليهم السلام
الله يرحم والديك وجزاك الله خير على كلامك الطيب ويبارك الله فيك ويرحم والديك وشكرا لك
اي والله بيت عزيزة الله يرحمها برحمته ام علي لنا ذكرة طيبه معها رحمها الله ذكرتني بايام الطفوله كلها صحيح بس اول مرة اعرف عين الصغيرة اسمها عين الجوهرية الصغيرة (نعرفها بعين الصغيرة)
جميل ماكتبت أستاذ محمود
هؤلاء النسوة يشكلن جزءا من ذاكرة المكان والزمان
إنهن البركة والطيبة .