بشرى الجارودي.. قهرت العمى 3 مرّات زادت الأزمة بمرض نادر.. تخطّت العقبات.. ربّت أولادها وحفظت القرآن
الجارودية: ياسمين الدرورة
لم تمنع الظروف الصعبة بشرى حسن الجارودي من المضي قدماً في تجاوز محنتها، وخاصة بعد فقدها بصرها للمرة الثالثة، ثم اصابتها بمرض آخر في الأطراف، ثم مرض زوجها ودخوله في جراحة معقدة، ثم وفاة والدها.
ومع اندماجها مع عدد من الكفيفات وُلد الأمل وتعلمت لغة برايل باللغتين العربية والإنجليزية، كما تعلمت الحاسب الآلي، والخوارزميات، وكذلك الحياكة بالنول، كما حفظت أجزاء من القرآن الكريم، وكذلك تعلمت بحور الشعر للخليل بن أحمد الفراهيدي.
بشرى الجارودي أم لـ 4 أبناء، من بلدة الجارودية، وإحدى مستفيدات مركز رعاية المكفوفات بجمعية مضر الخيرية، وقد سردت قصة كفاحها، وكيف أن أمراً جللاً غيّر حياتها وعالمها إلى الأبد.
ثلاث مرات
تقول: “إنها أصيبت بالعمى ثلاث مرات، المرة الأولى كنت حامل في الشهر الخامس وأنتظر مولودي الرابع حين بدأ النور في عيني اليسرى يختفي بالتدريج بشكل غريب وسريع حتى أصبحت رؤيتي للاشياء ضبابية يلاحظها من يشاهد تعبير وجهي، حيث كنت أضغط حاجبي وأركز بعيني بشدة، ثم أصبحت الرؤية أمرًا صعبًا جدًا”.
وتضيف: “تنقل بي زوجي إلى العديد من أطباء العيون، ومن مستشفى إلى آخر بلا نتيجة تذكر، لم يستطيع الأطباء تفسير ما يحدث حتى وصلت لمرحلة لا أرى بعيني اليسرى، وخفت قلبي من الرعب فأخذني زوجي على عجل لأقرب مستشفى حكومي، ومن الفحص للنقاش مع الأطباء ينتهي الحال بلا أجوبة صريحة ولا تشخيص واضح لحالتي وبقيت ليالي طويلة أقاسي الخوف ومرارة التفكير، وبعدها بشهر فقدت الرؤية في عيني اليمنى كان الأمر أشبه بكسوف الشمس لا شئ سوى الظلام”.
وتكمل: “تم إحالتي إلى مستشفى الظهران للعيون وقرر الطبيب اعطائي جرعة “كورتيزون” أستطعت بعدها بمدة وجيزة استرداد نعمة البصر بالكامل”.
وتؤكد: “مرت أشهر الحمل بسلام ووضعت قرة عيني الذي أحببت بشدة أن اسميه (ضياء) في 2009م، لكن بعد ولادتي بسنة وشهرين هجم علي المرض من جديد وفقدت الرؤية ودخلت في ظلمة حالكة، وفي غضون أقل من شهر فكر الأطباء مباشرة بإعطائي “الكرتيزون” من جديد كالمرة التي سبقتها وفعلًا نجح العلاج وعاد بصري تدريجياً.
هجمة ثالثة
وتتذكر بشرى بعد شهرين من الشفاء جاءت الهجمة الثالثة واختفى نظري بالتدريج في وقت أسرع من المرتين السابقتين، وتم وصف “الكرتيزون” لي للمرة الثالثة الإ أن لا شيء تغير هذه المرة وهنا كانت الصدمة، حيث تنقل بي زوجي من مستشفى إلى آخر دون جدوى، حتى تم عرض ملف حالتي لتخصصي بشكل طارئ فنصحتنى باجراء أشعة رنين مغناطيسي لدماغ وخزعة الظهر “الخزعة القطنية”، وظن الأطباء أنه ربما تكون أعراض مرض التصلّب اللويحي لأن عرض من هذا النوع يتكرر بسيناريوهات متشابه مع من يقاسيه حيث يكون البصر هو أول عضو يضربه المرض لكنهم لم يكونوا متأكدين، لتأتي نتائج التحليل بعد فترة وجيزة لتؤكد إصابتى بمرض مناعي نادر يفتك بالجهاز العصبي اسمه NMO (أو مرض ديفيك)، وهو مرض شرس يشبه التصلب اللويحي الـ (MS)، ويتسبب في فقدان البصر الدائم في عين واحدة أو كلتا العينين وضعفًا أو شللاً في الساقين أو الذراعين.
تأخرتي يا بشرى
وتقول: “هنا أخبرتني الطبيبة “لقد تأخرتي يا بشرى”.. “كانت الكلمة أكبر من قدرتي على التصديق، تبددت معها كل آمالي في الشفاء، وما بين الأنكار، والتصديق أغلق الحزن شفتي وربطت الكآبة لساني، وأرسمت هالات الخوف حول عيني، وكانت الكوابيس تقض مضجعي أصحو كل ليلة فزعة”، بعد مرض زوجى وتردده على احدى المستشفيات التخصصية لعلاج ورم في الدماغ كان قد تضاعف حجمه، وبدأ يؤثر على وظائف جسده، ولم يكن الحدثين الصحيين مترابطين لكن تزامنا في نفس الوقت لتتداعى الأسرة وتتبدل سعادتها إلى محنة وشتات، وكان التدخل الجراحي هو الخيار الوحيد لحالته والحد الفاصل في عودته للحياة الطبيعية، ليذهب إلى الرياض لأجراء عملية معقدة، محفوفة بالمخاطر استغرقت ١٤ ساعة وتكللت بالنجاح بحمد الله، أحتاج بعدها لأربعة أشهر من الرعاية الطبية والتأهيل المكثف”.
أزمات متلاحقة
وتكمّل بشرى قصتها بقولها:”بقيت مع صغاري في منزل أبي وأمي والذين شملوني بالرعاية وأحاطونى هم أخوتي بالاهتمام غير مستوعبين ما يحدث معي من أزمات متلاحقة، حتى عاد زوجي من الرياض بالسلامة بعد أنهاء علاجه ومرحلة التأهيل، وأصطحبني إلى البيت في حين بقى الصغار في رعاية والدتي، وكان علي أن اجتاز المحنة من أجل أولادي، وبدأت أحفظ زوايا البيت وعدد الخطوات وأحاول السير بثبات دون أن أرتطم بالأشياء أو أتعثر، لكن لم يتوقف المرض بل زاد شراسة في هجمة رابعة اجتاحت أطراف جسمي مصيبةً أياي بالضعف والشلل، ووفجأة شعرت بثقل في نصف جسمي الأيسر حيث كنت أسحب قدمي وبالكاد أحرك ذراعي، أخذني أهلي إلى الطوارئ وهنا تدخلت الطبيبة المشرفة على حالتي بشكل عاجل غير قابل للانتظار وبدأت بعلاجات تهبيط المناعة (الريتوكسيماب) وهو العلاج الذي سأعيش عليه طول حياتي بجرعات منتظمة كل 6 أشهر.
في مركز رعاية المكفوفات
وتضيف “كنت أكافح الظلام الذي استولى على قلبي بالاختباء في فراشي، فقد كنت أنام ساعات طويلة متمنية أن استيقظ فأرى النور من جديد، واحن اولادي وكل المحيطين بي وأطهو لهم الطعام بيديّ -وفعلت كل ذلك – بمرور الوقت أصبحت أطهو كما لو كنت مبصرة، ولكن ولان المصائب تأتي مجتمعة لا فرادى، توفي والدي الذى كان سندى تاركًا في قلبي وجع الفراق، ومرت الأيام ثقيلة وأنا أتظاهر بالقوة، وكنت منغلقة على نفسي غير قادرة على الخروج والتقاء الناس حتى جاء يوم وسمعت مصادفةً عن مركز رعاية المكفوفات، ذهبت إلى هناك وكان اللقاء الأول حظيت فيه بالقبول والتشجيع شعرت بعدها بالراحة رغم التزامي الصمت، ربما هي النفس تأنس بجوار من يشاركها الشعور ويقاسمها نفس الإحساس، أعقبتها لقاءات شعرت معهن بالكثير من الطمأنينة والهدوء وأحياناً بالسعادة، كانت ضحكاتهن تجعل قلبي يبتسم قبل شفتي، حتى أني أذكر في أول لقاء عندما سمعت ضحكاتهن أنكرت في داخلي كيف يمكنهن أن يكن سعيدات وهن كفيفات.
قصص مختلفة
وتقول بشرى: “اجتمعن بقصص مختلفة أحدهن أصيبت بمشكلة في شبكية العين وآخرى مرض آخر الغالبية كفيفات وبعضهن يرون ببصيص نور خافت، وبقصاصات مطبوعة تعلمت لغة برايل في وقت قصير باللغتين العربية والإنجليزية، حيث كان من مباهج اللقاء التعلم، كنا نتعلم كل مرة مهارات ونلتقي أشخاص قدموا خصيصًا لعرض أفضل ما لديهم ليهبونا الأمل والحياة، كما تعلمت مهارات كثيرة منها الحاسب الآلي، والخوارزميات، وكذلك الحياكة بالنول، وفي لقاء الجمعة الأولى فكانت تراتيل القرآن تصدح بأصوات يعانقها الأمل، أصغيت والدموع تنهمر من عيني ومن حينها قررت حفظ آياته وما زلت أداوم على قراءته حتى لا يضيع مني، واكتشفت حبي لشعر وموهبتي فيه بعد أن تعلمت بحور الشعر للخليل بن أحمد الفراهيدي، ووجدت أن عقلي وروحي هو الملكتين اللتين لن يعجزني انطفاء بصري عن أنّ أنميهما.
وتنهى بشرى قصتها قائلة: “أدين بهذه القوة في تجاوز محنتي إلى والدتي رحمها الله -التي وقفت بجانبي وإخوتي وزوجي وجمعية القديح الخيرية ومركز رعاية المكفوفات الذي وجدت فيه أخوات لم تلدهن أمي، قلوب اجتمعت على الطيبة والحب والعطاء.