التوقيت.. خيط رفيع بين لذة النجاح ومرارة الفشل
علي الشيخ أحمد
هل سبق لك أن واجهت مشكلة بدت وكأنها بلا حل؟ كنت أنا في مثل هذا الموقف مع طيور حمام كانت تتجمع بالعشرات على سطح منزلي كل يوم، كانت تنام هناك، وتسبب إزعاجًا كبيرًا بسبب الفضلات التي تراكمت في فناء المنزل، مما أثار مشاعر التقزز والإحراج.
جربت كل الطرق التقليدية لطردها، من الفخاخ إلى أجهزة الصوت، ووسائل مبتكرة أخرى، لكن دون جدوى. ولمدة طويلة، باءت كل محاولاتي بالفشل.
الحمام كان يعود يومًا بعد يوم، وجهودي تذهب سدى، إلى أن اكتشفت سرًا بسيطًا، ولكنه فعّال للغاية: التوقيت.
بدلاً عن الاستمرار في محاولة طرد الحمام في أوقات مختلفة من النهار وبشكل عشوائي، قررت تغيير استراتيجيتي. ركزت على إزعاجها في وقت حساس للغاية بالنسبة لها: في الليل، بعد عودتها إلى مقرها أعلى المنزل للنوم.
الحمام يجوب الفضاء طوال اليوم بحثًا عن الطعام، وفي نهاية اليوم يرجع إلى مقره للراحة.
فقلت لنفسي، لماذا لا أزعجه وقت راحته؟ حيث إنه سيطير هاربًا ويضطر إلى النوم في مكان بعيد وغير مألوف بالنسبة له، مما يجعله ينام قلقًا وغير مستقر، وهذا بدوره يؤثر في جودة نومه وقدرته على البحث عن الطعام في اليوم التالي، مما يتسبب في تعبه أكثر وإرهاقه في نهاية يومه.
في تلك الليلة، بدأت المعركة. استعنت بكل ما أوتيت من قوة لإزعاجها: أضواء قوية، أصوات مزعجة، حتى عصا طويلة لمكنسة يدوية. كانت المعركة مباغتة، واستمرت لدقائق قليلة، لكنني كنت مصممًا على الانتصار.
طار الحمام في كل الاتجاهات، يتخبط في الظلام، يبحث يائسًا عن ملجأ آمن. صدمة المفاجأة والظلام الكامل جعلته يطير بشكل عشوائي، يصطدم بجدران المنازل المجاورة. وفي النهاية، استقر على أسطح بعيدة، منهكًا ومذعورًا، كررت هذه العملية لعدة ليالٍ متتالية، وفي كل ليلة كانت الأعداد تتناقص بشكل ملحوظ، حتى اختفى السرب تمامًا بعد الليلة الرابعة.
درس عميق: كيف يكشف التوقيت أسرار النجاح؟
ولكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد. تلك التجربة لم تكن مجرد انتصار بسيط على الحمام، بل كانت درسًا أعمق بكثير، وجدت نفسي أفكر في كيفية تأثير التوقيت في نتائج كل ما نقوم به في حياتنا، بدأت أتساءل: هل كانت القرارات التي اتخذتها سابقًا في حياتي مبنية على التوقيت المناسب؟
ومع مرور الوقت، أدركت أن التوقيت قد يكون العامل الأهم في تحقيق النجاح، سواء في مسألة بسيطة كطرد الحمام، أو في قرارات أكبر وأكثر تعقيدًا. وهكذا خلصت إلى أن التوقيت ليس مجرد تفصيل عابر؛ بل هو مفتاح أساسي يحدد مصير قراراتنا وأفعالنا.
في كتابه “التوقيت: الأسرار العلمية للتوقيت المثالي”، يشير دانيل بينك إلى أن اختيار التوقيت المناسب يمكن أن يصنع الفارق بين النجاح والفشل. فالتوقيت يؤثر بشكل كبير في إنتاجيتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات الصحيحة.
بحسب دانيل بينك، يمكن تقسيم اليوم إلى ثلاث فترات رئيسة، ولكل منها خصائصها المناسبة.
الفترة الأولى هي فترة القمة، التي تستمر خلال الساعات السبع الأولى من يومك، وهي الوقت الذهبي للقيام بالمهام التي تتطلب تفكيرًا منطقيًا وتحليلًا دقيقًا. إنها الفترة المثلى للتركيز على الأعمال التي تحتاج إلى تنظيم وبناء، مثل كتابة تقارير قانونية معمقة، برمجة كمبيوتر، أو إجراء أبحاث مكثفة. إذا كنت تعمل في مجال يتطلب التحليل المنطقي، مثل كتابة المحتوى أو التدريس، فإن هذه الفترة هي الأنسب للقيام بهذه المهام.
الفترة الثانية هي فترة الهبوط، وتبدأ بعد حوالي تسع ساعات من الاستيقاظ. في هذه الفترة، يبدأ العقل في فقدان بعض من تركيزه وطاقته، بينك يقترح تجنب المهام المهمة خلال هذه الفترة، أو حتى أخذ قيلولة قصيرة. القيلولة المثالية تتراوح بين 10 إلى 20 دقيقة، وهي كافية لتحسين اليقظة والانتباه لبقية اليوم.
إذا لم يكن بإمكانك أخذ قيلولة، يمكن استغلال هذه الفترة للقيام بالمهام الأقل أهمية، مثل ترتيب الملاحظات أو تنظيف المكتب.
الفترة الثالثة والأخيرة؛ هي فترة الارتداد، التي تستمر خلال الساعات السبع الأخيرة من اليوم. بعد فترة الهبوط، يستعيد العقل جزءًا من طاقته، ما يجعل هذه الفترة مثالية للأعمال التي تتطلب الإبداع والخيال والتفكير خارج الصندوق. إذا كنت تعمل في مجال التصميم أو تحتاج إلى توليد أفكار جديدة، فهذه الفترة هي الأنسب للقيام بذلك.
التوقيت الخفي: كيف يحدد مصير قراراتك وأفعالك؟
لا يتوقف تأثير التوقيت عند حدود العمل فقط، بل يمتد ليشمل حياتنا الاجتماعية أيضًا، فهم الظروف التي يمر بها الآخرون، سواء كانت دورية أو آنية، يمكن أن يكون حاسمًا في تحديد التوقيت المناسب للتواصل أو اتخاذ قرارات مهمة.
الظروف الدورية هي تلك التي تتكرر بانتظام، مثل ضغوط العمل في نهاية الشهر، في هذه الأوقات، قد يكون من الحكمة تأجيل طلباتك أو نقاشاتك مع الآخرين حتى تهدأ الأوضاع، أما الظروف الآنية فهي تلك التي تحدث بشكل مفاجئ، مثل مشكلة عائلية أو صحية يمر بها أحدهم. هنا؛ من المهم أن تكون مرنًا في توقيت تواصلك وتقدير الموقف قبل الإقدام على خطوات قد تكون غير مناسبة.
الحياة تدور في شكل موجات متكررة، لكل منها أوقات صعود وأوقات هبوط، تمامًا مثل القمر الذي يبدأ هلالًا، ثم يكتمل بدرًا، قبل أن يعود هلالًا مرة أخرى. هذه الدورات الأبدية تتجدد باستمرار، وتؤثر في الإنسان في حياته اليومية، سواء كانت دورات يومية، أسبوعية، أو شهرية.
عندما نفهم الفترات التي تحدث عنها دانيل بينك في كتابه، نبدأ برؤية النمط ذاته يتجلى في جوانب متعددة من حياتنا، مثل سوق الأسهم، هناك دورة يومية تصبح فيها الأسهم في أدنى أسعارها قبل صلاة الظهر، بسبب انشغال الناس بالصلاة والغداء. في هذه اللحظات، يكون التوقيت المثالي لشراء المضارب اليومي.
وبالمثل، نجد خلال الأسبوع دورة أخرى، حيث يعد صباح الأربعاء أفضل وقت لبيع الأسهم لأنها تكون في قمتها؛ ذلك أن يوم الخميس عادة ما يكون يوم تصريف المضاربين، وهو وقت مناسب للشراء.
لكن الدورات الزمنية لا تقتصر على اليوم والأسبوع فقط، بل تمتد أيضًا إلى دورات شهرية وموسمية تتعلق بطبيعة نشاط كل شركة.
على سبيل المثال، الشركات التي تعتمد في مبيعاتها على احتياجات المدارس تمر بدورات شهرية وسنوية، هنا يظهر ما يسمى بـ”المضارب الموسمي” (Seasonal Trader)، وهو الشخص الذي يدرك هذه الدورات ويحقق أرباحًا من خلال فهم التغيرات التي تمر بها الأسواق.
هذه الدورات، رغم تداخلها وتعقيدها، تمنحنا القدرة على تحديد التوقيتات المثالية للقيام بعمليات البيع والشراء، وكان هذا مجرد مثال عملي على كيفية فهم أهمية التوقيت. فالأمثلة على الدورات في حياتنا كثيرة ومتنوعة، بدءًا من دورات الطبيعة السنوية ومرور الفصول الأربعة، إلى دورات حياة الإنسان التي تبدأ بالمراهقة وتنتهي بالشيخوخة، ودورة حياة الأسرة التي تبدأ بعقد القران وتنتهي بزواج الأبناء ووفاة أحد الطرفين.
التوقيت: المفتاح السري لتغيير مسار حياتك
وعودة إلى ما بدأت به الحديث، فإن ما تعلمته من تجربتي مع الحمام، وما يؤكده العلم، هو أن التوقيت ليس مجرد عامل عشوائي، بل هو عنصر حاسم يمكن أن يحدد نتائج أفعالنا وقراراتنا، سواء كنت تواجه تحديًا في العمل أو في حياتك الشخصية، فإن اختيار الوقت المناسب يمكن أن يكون المفتاح لتحقيق النجاح. لذا، استغل فترات القمة في يومك للمهام الصعبة، وتجنب اتخاذ قرارات كبيرة خلال فترة الهبوط.
ركز على الإبداع خلال فترة الارتداد، ولا تنسَ أن تراقب الظروف المحيطة بالآخرين لتحديد الوقت المثالي للتواصل أو اتخاذ القرارات المهمة، في النهاية، التوقيت قد يكون الفارق الذي تحتاجه لتحويل تحدياتك إلى نجاحات.
وفي نهاية المطاف، دعونا نتذكر أن حياتنا ليست مجرد سلسلة من الأحداث المتتابعة، بل هي لوحة فنية نشكلها بقراراتنا وأفعالنا. كل لون نضيفه، كل ضربة فرشاة نرسمها، تعتمد بشكل أساسي على توقيتنا. التوقيت ليس مجرد لحظة عابرة؛ إنه نبض خفي يوجه إيقاع حياتنا. ربما الآن، ونحن نتأمل هذه الأفكار، هناك قرار ينتظر توقيته المثالي، أو ربما هناك فرصة تختمر في الخلفية، تنتظر اللحظة المناسبة لتتجلى.
لكن يبقى السؤال الذي يرافقنا: كيف نميز بين اللحظة المثالية والتوقيت الخطأ؟ هل هناك أسرار أخرى للتوقيت لم نكتشفها بعد؟ قد تكون هناك استراتيجيات خفية تنتظر منا اكتشافها، لتغير حياتنا بطرق لم نتخيلها من قبل.
العالم مليء بالفرص والتحديات، والتوقيت هو المفتاح الذي قد يفتح لنا أبوابًا لم نكن نعلم بوجودها، لكن هل نملك الجرأة لاستكشاف المزيد؟، هل نحن مستعدون لاستكشاف أعماق هذا السر الذي قد يكون أعظم أداة لتحقيق النجاح؟، فقط الوقت سيكشف لنا ما يمكن أن يكون… ولكن حتى ذلك الحين، كل ما نستطيع فعله هو أن نخطو بحذر، أن ننتظر بصبر، وأن نتحلى بالشجاعة اللازمة لاتخاذ القرار عندما تدق ساعة التوقيت المناسبة، لأننا قد نجد في تلك اللحظة كل ما كنا نبحث عنه طوال حياتنا.
ماشاءالله المغزى عميق وتوقيته فعلا جميل نحتاجه خصوصا بهذي الفترة والله يوفقك
احسنت يابوحسين مقالة من خبير