ماذا دعاك لهذا التصرف؟ كيف توجه دوائر الدماغ العصبية السلوك بشكل مرن

ترجمة: عدنان أحمد الحاجي

التزاوج مسألة غريزية بالنسبة للفأر، لكن في بعض الأحيان، على سبيل المثال، عندما تفوح رائحة كريهة من شريكة حياته المنتظرة، يبتعد ذكر الفأر عنها. عندما نشرت غلوريا تشوي  Gloria Choi، الأستاذ المساعد في التطوير الوظيفي، وزملاؤها، دراسة(1) في دورية نتشر Nature  في أبريل، 2021، كشفت عن كيف يحدث هذا النوع البدائي من التباعد الاجتماعي (أو التباعد الجسدي)(2)، كاشفين مثالًا رائعًا (وفي وقته المناسب) بشأن كيف تجعل دارات circuits الدماغ العصبية السياقَ عاملًا مؤثرًا في السلوكيات، مما يجعل تلك السلوكيات مكتسبة ومناسبة حتى عندما تكون غريزية. 

عندما تصل رائحة المرض إلى أنف الفأر، فإن ذلك يحفز الخلايا العصبية في العضو الميكعي الأنفي (أو عضو جاكبسون)(3).

وقد اكتشف فريق تشوي أن الخلايا في هذا العضو ترسل الإشارة الكهربية عبر العصب إلى البصلة الشمية في الدماغ.

 كما اكتشف فريق تشوي أن الخلايا في هذا العضو، ترحل الإشارة الكهربية إلى الخلايا العصبية في منطقة تسمى اللوزة القشرية التي تضبط (تسيطر على) غريزة التزاوج.

[اللوزة القشرية تتواسط بين الانجذاب الغريزي للذكر إلى الأنثى كما تتواسط النفور من الرائحة(4)]. وأخيرًا، عند استكمال دائرة الحفاظ على الصحة التي تمنع غريزة التزاوج، تقوم تلك الخلايا العصبية بترحيل الرسالة إلى النواة اللوزية الوسطى المجاورة. وبقيامها بذلك، فإن تسلسل الأحداث هذا يغذي السياق الحسي، وهي رائحة الأنثى الكريهة، في دائرة لتجاوز السياق الافتراضي للحالة الداخلية، وهي غريزة التزاوج.

 حتى أن الباحثين أثبتوا أنه بالاستثارة (بالتحفيز) الاصطناعي للخلايا العصبية اللوزية القشرية، تمكنوا من منع الفأر من التزاوج مع شريكة حياة سليمة، وبإسكات (تثبيط) تلك الخلايا نفسها اصطناعيًا، تمكنوا من جعل الفأر يتزاوج مع شريكة حياة كريه الرائحة.

كما ستعرف لاحقًا، يتمتع الدماغ بمرونة في مدى عمله أكبر بكثير مما تتمتع به الدوائر الكهربائية التي تزود منزلك بالطاقة أو حتى من الرقائق التي تشغل هاتفك الخلوي. وقالت تشوي: “لكن في الأساس فإن ترحيل الإشارات الكهربائية من خلية عصبية إلى أخرى هو الذي يشكل الأساس ليس فقط لكيف نتصرف، بل أيضًا لكيف نوفِّق السلوك مع الظروف التي نواجهها بشكل مناسب”.

معرفة كيف ينبثق السلوك من دارات الدماغ العصبية يُعتبر مجالًا مثيراً لدراسات علم الأعصاب، بما فيها الكثير من الدراسات التي تجريها مختبرات معهد بيكاور picower. هذه الدراسات تساعد في معرفة كيفية ترتيب مناطق الدماغ من الناحية التشريحية لتستطيع معالجة المعلومات، وكيف يمكن لأبعاد المرونة المتعددة التي يفرضها الجهاز العصبي المركزي على الدوائر (الدارات) العصبية أن تدخل السياق كعامل توجيه مؤثر للسلوك المناسب.

فالسياق، في النهاية، يأتي من مصادر عديدة وبأشكال عديدة – من الحواس، مثل الروائح والأصوات والمناظر؛ من الحالات الداخلية، مثل دافع التزاوج أو الجوع أو النعاس؛ وحتى من الزمان والمكان ومما تعلمناه أو اكتسبناه وتذكرناه.

إذن ماذا دعاك حين تصرفت “بهذا التصرف” بدلاً من أن تتصرف “بذلك التصرف”؟ كنت تفكر في السياق وتعتمد على قدرة دماغك على تأويل ذلك السياق.

الضبط الكيميائي

استعارة “الدائرة الكهربية” المألوفة تجعل التفكير في الخلايا العصبية باعتبارها مجرد مفاتيح وأسلاك تمرر عمليات التوصيل الكهربائية من نقطة إلى أخرى عملية أكثر سهولة. وهي كذلك بالفعل، بالرغم من أنها بدل من أن تُربط ببراغي وتُلحم بقصدير بنقاط وصلات معدنية، هذه الدائرة العصبية تستخدم جزيئات كيميائية تسمى الناقلات العصبية لإرسال إشارات عبر وصلات صغيرة تسمى المشابك العصبية.

لكن لو كان هذا هو كل ما يحدث، لكان الدماغ ساكنًا تمامًا وهو بالقطع ليس كذلك. الكثير من أعضاء هيئة التدريس في المعهد يتناولون بالدراسة كيف تتم عملية التعلم (ومن ذلك التعود) وتتشكل الذكريات عندما يغير الدماغ مشابكه العصبية لإنشاء أو تعديل توصيلات الدارات العصبية، ولكن لا شيء من ذلك ضروري تمامًا للدارات العصبية الموجودة للتحكم في السلوكيات بالمرونة التي اكتسبناها بالفعل أو السلوكيات الغريزية.

 لدى الدماغ طرق أخرى لتغيير أسلوب عمله بشكل مرن. على سبيل المثال، وجد فريق تشوي أن التغيير السلوكي لتثبيط عملية التزاوج لا يمكن أن يحدث دون أن ترسل الخلايا العصبية في اللوزة القشرية العصبية أيضًا الهرمون المنشط للغدة الدرقية thyrotrophin، وهو الهرمون المُفرِز للثيروتروفين (TRH) إلى الخلايا العصبية في نواة اللوزة الوسطى. 

في مختبر الأستاذ المشارك ستيفن فلاڤيل Steven Flavel، يتناول الباحثون بالدراسة كيف تنبثق الحالات والسلوكيات الداخلية وتغيرها باستخدام دودة بسيطة جدًا لدرجة أن “الدائرة العصبية” غير المتحورة قد وضعت لها خريطة عصبية كاملة منذ عقود. ومع ذلك، حتى في دودة الربداء الرشيقة (5) ,C. elegant التي يبلغ إجمالي عدد خلاياها العصبية 302 عصبونًا، لا يزال الباحثون يكتشفون كيف تلاءم أفعالها (سلوكياتها) مع المحيط من أجل البقاء والترعرع في عالم من السياقات الداخلية والخارجية (الآنفة الذكر) المتغيرة باستمرار.

في الدودة الربداء الرشيقة، عندما تكتشف عصبونات الـ AIA رائحة طعام، لو كانت الدودة تأكل، فإن الدائرة الكهربائية ستجعلها تمكث في نفس المكان.  وإن لم تكن تأكل، تقوم دائرة مختلفة بإجبارها على التحرك والبحث عن مصدر رائحة الطعام.

في الكثير من الدراسات، بيّن فلاڤيل كيف تشفر أعداد قليلة من الخلايا العصبية السياق ثم ترسل إشارة إلى أن تلك الظروف تجري على قدم وساق وذلك بإفراز مواد كيميائية تسمى “المعدِّلات العصبية(6)” للكثير من الخلايا العصبية الأخرى، مما يؤدي إلى ظهور حالة دماغية [الحالة الدماغية هي حين تقوم مجموعات من الخلايا العصبية بالتزامن بفعل جهد firing وبنفس التردد. تمامًا كما يفعل الـ TRH في الدائرة التي اكتشفتها تشوي، فإن المعدِّلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، المنتشرة أيضًا عند الإنسان، تضيف بُعدًا إضافيًا من الضبط الذي يمكن أن يغير، أو “يعدل”، كيف تعالج دارات الدماغ العصبية المعلومات وتنبثق منها سلوكيات، كما قال فلاڤيل. وأوضح أن المعدِلات العصبية يمكن أن تجعل الخلايا العصبية أكثر أو أقل إثارة كهربائيًا في ظل نفس الدرجة من المدخلات (الداخلية والخارجية الآنفة الذكر).

يمكنها أيضًا أن تجعل نقل هذه المعلومات عبر المشبك العصبي أكثر أو أقل فاعلية.

وعليه أنت لست فأرًا يقرر ما إذا كان سيتزاوج أم لا، أو فأرًا يبحث في المتاهة عن غذاء، بل أنت واحد بقيت ساهرًا لوقت متأخر في منزل أحد أصدقائك. حالتك الداخلية تقول إنك متعب. بإمكانك التوجه إلى بيتك في رحلة طويلة بالسيارة لتنام على سريرك النظيف والدافئ، أو بإمكانك أن تقرر أن تبقى لتنام على أريكة صديقك المتسخة والعفنة وتبرر ذلك التصرف لزوجتك (لزوجك) في صباح اليوم التالي.  لكنك تذكرت أثناء ذهابك بالسيارة إلى بيت صديقك، أنه كان هناك استراحة في الطريق تبيع قهوة يمكنك أن تشتري كوبًا منها.

 سواء قررت أن ترجع إلى بيتك متأخرًا أو تنام على أريكة صديقك بقية الليلة، كل ذلك سيأتي من كيف تقوم مجموعة من المعدِّلات العصبية والتذبذب العصبي [أو موجة الدماغ وهو نشاط عصبي إيقاعي في الجهاز العصبي(7)] بتوجيه المعلومات على طول الدوائر العصبية في مناطق الدماغ الرئيسة لدمج كل هذه السياقات – وهي حالة التعب الداخلية حينئذ عندك وتذكرك لمكان استراحة القهوة على الطريق والنوم في بيتك على سريرك (أو العقوبة المحتملة من زوجتك الغاضبة التي قد تسأل “ماذا دعاك لهذا التصرف؟”).

ــــــــــــــــ

مصادر من داخل وخارج النص

1- https://picower.mit.edu/news/mice-naturally-engage-physical-distancing-study-finds

2- https://ar.wikipedia.org/wiki/تباعد_اجتماعي

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/عضو_ميكعي_أنفي

4- https://www.biorxiv.org/content/10.1101/2024.06.26.600895v1

5- https://ar.wikipedia.org/wiki/ربداء_رشيقة

6- https://ar.wikipedia.org/wiki/تعديل_عصبي

7- https://ar.wikipedia.org/wiki/تذبذب_عصبي

المصدر الرئيس

https://picower.mit.edu/news/what-were-you-thinking

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×