2] فضائح ابن بطُّوطة.. الغوّاص يمكث في الماء ساعتين.. ولا يموت..! من غرائبياته: السيب في الساحل.. الصدفة تبلع المطر.. وتخرج اللؤلؤة بعد ملامسة الهواء

عدنان السيد محمد العوامي

الغوص على الجوهر

عن الغوص واللؤلؤ قال: “ومغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل وشهر مايو تأتي القوارب الكثيرة، فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف، ويجعل الغواص على وجهه – مهما أراد أن يغوص – شيئًا يكسوه من عظم الغيلم، وهي السلحفاة، ويصنع من هذا العظم أيضًا شكلاً شبه المقراض يشدُّه على أنفه، ثم يربط حبلاً في وسطه ويغوص.

ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك، فإذا وصل قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار مثبتًا في الرمل، فيقتلعه بيده، أو يقطعه بحديدة عنده معدة لذلك، ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه، فإذا ضاق نفَسُه حرك الحبل، فيحس به الرجل الممسك بالحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب فتؤخذ منه المخلاة، ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع لحم تقطع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهرَ، فيجمع جميعها من صغير وكبير، فيأخذ السلطان خُمُسَه، والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب، وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين، فيأخذ الجوهر في دَينه أو ما وجب له منه”(1).

فهل هذا كلام سائح مشاهد؟ أم كلام من لا علم له بشيء؟ لنأخذ معلوماته واحدة واحدة:

 – “يجعل الغواص على وجهه شيئًا يكسوه من عظم الغيلم، وهي السلحفاة”.

لا يضع الغواص على جسمه شيئًا ألبتة؛ عدا سروال يستر به عورته يسمونه في الخليج (شملول)، وهو ملون باللون الأسود أو الأخضر أو الأزرق، ولا يستخدم اللون الأبيض خوفًا من سمك القرش(2)، ويدهن جسمه بزيت السمك وقاية له من لسع أطراف قنديل (Jellyfish)، ويسميه أهل البحر في القطيف: الدول(3)، وكذلك (الصرَّابية)، وهي رغوة بيضاء طافية على سطح البحر حارقة، إذا لامست جسم الانسان سببت له حروقًا. هذا ما علمناه من البحارة(4).

– “ثم يربط حبلاً في وسطه ويغوص”.

لا يربط الغواص جسمه بشيء البتَّة، لا بحبلٍ ولا بغيره، وإنما يستعمل في الغوص حبلًا طوله 40 باعًا، يعادل 79 مترًا تقريبًا يسمى (إيدا) يُربط في أحد طرفيه شبكة على هيئة نصف دائرة تشبه الكيس، منسوجة من الحبال، ينزل بها الغواص إلى قاع البحر، ويضع فيها ما يجمعه من المحار، والطرف الثاني يمسك به السيب – بالسين الممالة نحو مخرج الفتحة (Saib) – وهو عامل موكل بالغائص عندما يريد الخروج من الماء ينبر (يجذب الحبل) فيشعر به السيب ويخرجه.

– “ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك”.

هذا غير صحيح حتى لوكان قصْدُه فتراتِ المكوث خارج الماء بدون غطس للاستراحة وشرب القهوة وتدخين النارجيلة، فهذه – إن طالت – فليس أكثر من 5 دقائق، يستريح الغوَّاص خلالها ويدخن، أما داخل الماء فهذا مستحيل على أطول الغواصين نفَسًا، فنحن – حتى الآن – نرى أن الغواصين لا تزيد مدة مكوثهم تحت الماء على دقائق معدودة لا تتجاوز الخمس عند أكثرهم تحملا، وما يتداوله الناس على وسائل التواصل عن تمكن بعض هواة الغوص من حبس أنفاسهم لمدة 11 دقيقة، وحتى أن أحد الغواصين المحترفين وهو الغواص المصري أحمد جبر استحق الدخول في موسوعة (جنس للأرقام القياسية) لتمكنه من المكوث تحت الماء 12 دقيقة، وهذه ومثيلاتها حالات استثنائية لا يقاس عليها.

– “فإذا ضاق نفَسُه حرَّك الحبل، فيحسُّ به الرجل الممسك بالحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب”.

أرأيت؟ كيف يغوص الغواص في “خور راكد مثل الوادي العظيم” كما قال، والذي يسحبه يكون واقفًا على الساحل؟  “إِنَّهَا لإحْدَىَ اْلْكِبَرْ”، وإذا كان الغوص في الساحل فما حاجتهم إلى السفن؟ وكيف يكون الممسك بالحبل على الساحل، ويأخذ الغوَّاصَ إلى ظهر السفينة؟ هذا هو الكذب البواح، والتخبط الصراح.

– “ويُفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع لحم تقطع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر”.

هل هذه هي الكيفية التي يوجد فيها اللؤلؤ في جوف المحار؟ أم هل هذا الوصف وصف مشاهد؟ أوليست هذه قرينة أخرى تعضد رأينا في أن عين ابن بطُّوطة لم تكتحل بضوء أيِّ موضع في الخليج؟ فلو أنه زار المنطقة حقيقة لعرف الرأي الشائع، آنذاك، في كيفية تخلُّق اللؤلؤ على الأقل، ولاسيما أنه زار مغاص اللؤلؤ كما يزعم، فالاعتقاد السائد لدى أهل المنطقة في تلك الأيام أن المحار يفتح أفواهه لالتقاط المطر، فما دخل منه أجوافَها صار لؤلؤًا، ويتحدد حجم اللؤلؤة بقدر حجم قطرة المطر، فكلما كانت القطرة كبيرة كبر حجم اللؤلؤة.

وقد بلغ من سيطرة هذا الوهم حتى استحوذ على علماء الدين، فنقلوا أنَّ أبا البختري نقل في كتاب (قرب الإسناد) عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: “يَخْرُجُ مِنْهُمَا اْلُّلُؤْلُؤُ وَاْلْـمَرْجَاَنُ”  الرحمن: ٢٢ قال: “من ماء السماء وماء البحر، فإذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها في البحر، ويقع فيها من ماء المطر فتُخلق اللؤلؤة الصغيرة من القطرة الصغيرة، واللؤلؤة الكبيرة من القطرة الكبيرة(5)، ولم يلتفت واضع هذا التفسير على الإمام إلى أن الآية تذكر المرجان أيضًا(6)، لكنه لم يقل شيئًا عن المرجان، ولا كيفية تخلقه.

لقد بقيت هذه الأسطورة حتى زمن متأخر جدًّا، فهذا الشيخ عيسى بن صالح العصفور الدرازي البحراني، من أهل القرن الحادي عشر الهجري، يقول من قصيدة يمدح فيها معاصرَه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني، وقد وفد عليه أثناء إقامته في الهند؛ يشبِّه كرمه بالمطر، فيقول:

أمسى يَمير عِشار المزن وابلُه

ليضحك البحر والأشجار في الأجم

فكَّت لأفواهها الأصداف مذ علمت

بوبله، فغدت باللؤلؤ الرخم(7)

ولقد نبَّه الرحالة اليهودي (پدرو تكسيرا)، المعاصر لتلك الحِقبة، إلى هذا الوهم شاكًّا في المتداول عن كيفية تخلق اللؤلؤ، وتعليله قريب من الصحة، وإن شابه شيءٌ من عدم الدقة، وهذا نص ما قاله: “وقد كتب الكثير عن اللؤلؤ، ومع احترامي لكل ما كُتب لا أستطيع أن اتفق معهم في الرأي القائل بأن اللؤلؤ يتكون نتيجة نقطة مطر تسقط داخل المحارة حيث أنه لا يعقل أن تطفو هذه المحارة الثقيلة إلى السطح؛ لكي تبتلع نقطة المطر، ونعلم، أيضًا، أنه كلما كانت المحارة على عمق أكبر كانت اللؤلؤة أكثر جودة. ولقد وجدنا – أنا واليسوعيون والوثنيون العاملون في صيد اللؤلؤ – أن هناك جزءًا من المحارة لو قطع وصقل يتحول إلى لؤلؤة كما لو كانت غير ملتصقة، ولذا أؤكد أن اللؤلؤ يتكون من نفس مادة المحارة بسبب أو آخر، ويساعدني في هذه الفرضية بأن تركيب اللؤلؤة هو نفس تركيب المحارة الحاوية لها”(8).

هذه الملاحظة على إجمالها لا تخلو من صحة؛ فاللؤلؤة تتخلق من تصلُّب (concretion) لامع ناشئ عن إفرازات كيميائية في جوف حيوان رخوي من ذوات الصدفتين (bivalve) قوامها كربونات الكالسيوم -Calcium carbonate، وهذه المادة أيضًا تدخل في مكونات بطانة المحارة.

تفرز المحارة المادة إذا دخل جسم غريب إلى أحشائها؛ كحبة رمل ناعمة، أو مخلوق دقيق (دودة)مثلًا، فتأخذ في إفراز تلك المادة حول ذلك الجسم الغريب لحماية أحشائها من الأذى، ومن تراكم تلك المادة تتكون اللؤلؤة(9)، وليس من قِطع لحمها إذا لامست الهواء كما توهم ابن بطُّوطة، فلو أن الرجل وصل إلى مواقع الغوص فإن أقل ما يتوقع منه أن يعرف رأي الغواصين في كيفية تخلُّق اللؤلؤ فينقله كما هو، إذا لم يكن يعلم بحقيقة تخلُّقه.

 ــــــــــــــــــــــ

(1)ص: تحفة النظار في غرائب الأمصار 289 –290.

(2)معجم المصطلحات البحرية في الكويت أحمدالبشر الرومي، إصدار مركز البحوث والدراسات الكويتية، الكويت، 1996، ص: 243.

(3)معجم المصطلحات البحرية في الكويت، أحمد البشر، مر ذكره ص: 230.

(4)في الكويت يسمونها شرى. والظاهر أن هذه الرغوة غير الرغوة المعروفة بزبد البحر، ولعلها متكونة من تحلل بعض نباتات البحر، وبعض الحيوانات الدقيقة، والأسماك الميتة من الصنف المعروف بقناديل البحرJelly fish)). معجم المصطلحات البحرية في الكويت، أحمد البشر، مر ذكره ص: 250.

(5)قرب الإسناد، تأليف عبد الله بن جعفر الحميري، تحقيق مؤسسة آل البيت (A) لإحياء التراث، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ 1993م، الحدث: 485، ص: 137.

(6)المرجان: مادة تنشأ من إفرازات بعض أنواع حيوان بحري من الزهريات الشعاعية اللاحمة، تعيش في مستعمرات، وتخرج ليلا لاقتناص فرائسها، يفرز الحيوان مادة كلسية تشكل هيكلاً عظميًّا خارج جسده، هذه الهياكل تبقى بعد موته فتشكل الشعاب المرجانية والجزر المرجانية. موسوعة المورد، جـ3/ 91.

(7)الكشكول، الشيخ يوسف البحراني، جـ 2/274.

(8)تاريخ الخليج والبحر الأحمر في رحلات بيدرو تيخسيرا، ترحمة د. عيسى أمين، ص: 106.

(9)Encarta Encyclopedia, 99, CD.

اقرأ الحلقة السابقة

1] فضائح ابن بطُّوطة في القطيف وبلاد البحرين القديمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×