1 من 3] ناصر خسرو لم يزر الأحساء.. وشخصيته مزدوجة بين “مُشاهد” و “ناقل”
عدنان السيد محمد العوامي
ناصر خسرو في الأحساء([1])
أخطأ المترجم فتاه الرحالة
الحلقة الأولى
- الكتاب: سفرنامه([2])
- المؤلف، حكيم ناصر خسرو قبادياني مروزي([3])
- وضع حواشيه وتعليقاته الدكتور محمد دبير سياقي.
ترجمه من اللغة الفارسية إلى الفرنسية تشارلز شيفر ((Chares Schefer، ونشره في باريس؛ إرنست ليروكس Ernest Leroux سنة 1881، وأعادت نشره بايبيلولايف Bibliolife في أمريكا عام 2011 ، ونقله إلى العربية: الدكتور يحي الخشاب، ونشرته دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1970م.
عندي أنَّ قراءة النصوص المكتوبة ليست بالبساطة التي نتصوَّرها للوهلة الأولى؛ بل هي من أكثر الأمور تعقيدًا وصعوبة؛ وتستوجب التدقيق والتأمل والأناة، فلرب فقرة تُرِكت، أو قُرئت على عجل؛ أوقعت من اللبس والغلط وسوء الفهم ما لا يمكن تصوُّره، وهذا عينُ ما حصل لمترجم كتاب (سفر نامه)، من الفارسية إلى الفرنسية: السيد تشارلز شيفر ((Chares Schefer ، وهو الكتاب الذي دوَّن فيه ناصر خسرو وقائع رحلته إلى الشام وبيت المقدس ومصر، ومكة المكرمة، وجزيرة العرب.
تشارلز شيفر
أعني – بما وقع في ذلك الكتاب – أن المترجم السيد (تشارلز شيفر) تجاوز مسؤوليته في التقيد بحدود الترجمة إلى أخذ دَور المحقق، فأجرى تعديلاً واحدًا طفيفًا على ما ظنه خطأً في المخطوطات، ولو أنه وقف عند الترجمة ولم يتدخلٍ؛ لاختلفت النتائج، ولم يقع ما وقع فيه المؤلفون، الذين اعتمدوا على هذا الكتاب، من لبس وسوء فهم لحِق – بسببه – ظلمٌ وتشويه كبيرين بسكان بلد بأكمله في تلك الحقبة، فنُسبت لهم أمورٌ هم – يقينًا – منها براء.
ولا أكتم القارئ العزيز أن المسألة التي سوف أثيرها هنا؛ مسألة بالغة الحسَّاسيَّة والحَرَج، ولاسيما أن كتاب (سفر نامه) اعتُبر من أوثق المصادر التي اعتَمد عليها المؤلفون الذين تناولوا تاريخ شرق جزيرة العرب، وإذ قرَّ في الأذهان كافة أنَّ ناصر خسرو زار الأحساء، وسجل ما سجل عنها من معلومات عن مشاهدة ورؤية، فإن نسف هذا التصور هو – في الحقيقة – نسفٌ لكلِّ ما بُني عليه من النتائج؛ ولذلك عُنِيت بنصوص الكتاب عناية فائقة، فأكثرت المراجعة والتدقيق، والتمعُّن، وخصوصًا الفصل المعنون: (إلى الحسا عن طريق الطائف ومطار والثريا وجزع وسربا وفلج واليمامة والبصرة حيث وقع اللبس).
وزيادة في الحيطة والتثبت تطلَّبْتُ ترجمة أخرى للرحلة، فتفضل عليَّ سماحة ابن عمِّي السيد حسين ابن السيد محمد ابن السيد باقر العوامي فبعث إليَّ بترجمة للأصل الفارسي من (سفرنامه، حكيم ناصر خسرو قبادياني مروزي، حواشي وتعليقات الدكتور محمد دبير سياقي)، وبذلك أدركت فداحة الخطأ الذي وقع فيه المترجم الفرنسي شيفر، كما سنرى لاحقًا.
لقد تأمَّلت في هذا الفصل بتؤدة وحرص شديدين، وقرأته قراءة نقدية فاحصة أوصلتني إلى نتيجة تأكَّدَ لي منها أن قَدَمَ ناصر خسرو لم تطأ تراب الأحساء أبدًا، وعَيْنَهُ لم تبصر شيئًا مما وصفه فيها، وكل ما في الأمر أنه – بعد أن أتمَّ حجته الأخيرة (الرابعة) صمم على العودة إلى بلده مرو عن أقصر طريق، فسأل بعض الجمَّالة فأفهموه بأنهم يبلغونها – من مكة – في ثلاثة عشر يومًا، فاستأجر جملاً من جَمَّالٍ أعرابي ليذهب إلى الأحساء، وارتحل معه، وواضح أن مترجم الرحلة من الفارسية إلى الفرنسية؛ السيد شيفر تسمَّر ذهنه عند نقطة واحدة هي أن ناصر خسرو خرج من مكة قاصدًا الأحساء، ونتيجة لهذا التصور لم ينتبه إلى ما وقع للرجل من وقائعَ وأحداث اضطرته مجبرًا على تغيير وجهته، كما سنرى لاحقًا.
الرحلة من بدايتها
استغرق ناصر خسرو في رحلته – منذ بدء انطلاقه من مرو في السادس من شعبان سنة 437هـ([4]) – متوجهًا إلى الشام وبيت المقدس ومصر، ثم إلى الحجاز، وبقي متردِّدًا بين بيت المقدس ومصر والحجاز طيلة سبع سنين حجَّ خلالها أربع مرات، وفي الحجة الرابعة فكَّر في العودة إلى وطنه، عن أقصر الطرق إلى الديار الإيرانية. فهل شملت هذه الرحلة الأحساء؟
هذا هو المتيقَّن عند من اطلعت على كتاباتهم من المؤلفين المعاصرين الذين أرَّخوا لشرق جزيرة العرب، لكن نتائجَ أخرى مناقضة لهذا الوهم ظهرت لي عند التأمل والتدقيق في أسلوب الرجل، ومنهجه؛ فقد لاحظت – على امتداد الرحلة – أن لناصر خسرو – في ثنايا سطوره – شخصيتين اثنتين لا واحدة؛ إحداهما شخصية الرحالة المشاهد، حين يتحدث بلغة المشاهد معبرًا عن مشاهداته بعبارات المشاهدة، مثل: («فسِرْتُ… »، و: «غادرْتُ… »، و: «وصلنا… »، و: >بلغنا… »، و: «وأقمنا…<، و: «مكثْت… »، و: «خرجنا… »، و:«زرت…» ، و: «رأيت… »، و: «وقد أروني… »، و: «دعانا إلى الغداء… »)، وما يشبه هذه العبارات مما يستخدمه المشاهد في حديثه عادة. إضافة إلى تدوين التاريخ اليوم والشهر والسنة، سواء لوصوله، أو لخروجه من البلد أو الموضع.
أما الشخصية الأخرى فشخصية الجغرافي الناقل عن مصدر أو مرجع آخر، وهذه نلحَظها بوضوح في ثنايا وصف البلدان التي لم يزرها، غالبًا، كوصفه للأندلس وصقلية واليمن وغيرها من الأقطار التي لم يزرها، ففي هذه المواضع تختفي عبارات شخصية الرحالة المشاهد، وتحل محلها عبارات شخصبة أخرى مختلفة تمام الاختلاف؛ مثل: («ويقال… »، و:«وسمعت… »، و: «كان لهم في ذلك الوقت… »، و: «ويصفون بيوتها… »)، وما شابه ذلك من صيغ الرواية، وحتى لا أطيل في ما لا غنية فيه أخلص إلى المرحلة الأخيرة من رحلته، فهي غرضنا من هذا البحث، بيد أن من الْـمُتَعَيِّنِ أن أعرض عَيِّنَتَيْنِ تبينان منهج خسرو في التدوين إحداها: منهجه في تدوين مشاهدته، والآخر منهجه في تدوين ما ينقله عن غيره؛ لكي يتسنى لنا فهم منهجه فهمًا دقيقًا.
نموذج من منهجه في مشاهداته
«وفي يوم السبت الثاني من رجب سنة 438 (2 يناير1047) بلغنا مدينة سروج، واجتزنا الفرات في اليوم التالي، ونزلنا في منبج، وهي أول مدن الشام، وكان هذا أول بهمن القديم (يناير فبرير) والطقس هناك معتدل جدًّا، ولم يكن خارج المدينة عمارات قط، وقد سرت منها إلى حلب، ورأيت مدينة حلب فإذا هي جميلة، بها سور عظيم، قست ارتفاعه فكان خمسًا [كذا!، والصواب: خمسة] وعشرين ذراعًا، وبها قلعة عظيمة مشيدة كلها على الصخر، ويمكن مقارنتها ببلخ، وهي مدينة عامرة، أبنيتها متلاصقة، وفيها تحصَّل المكوس عما يمر بها من بلاد الشام والروم وديار بكر ومصر والعراق»([5]).
نموذج من منهجه في النقل
«ويمتد بحر الإسكندرية حتى القيروان، التي يفصلها عن مصر مسافة مائة وخمسين فرسخًا، والقيروان وِلاية مدينتها الكبرى سلجمانة التي تقع على بعد أربعة فراسخ من البحر، وهي مدينة كبيرة في الصحراء، وبها حصنٌ محكم، وبجانبها المهدية التي بناها المهدي؛ أحد أبناء أمير المؤمنين الحسين بن علي (رضي الله عنهما) بعد استيلائه على المغرب والأندلس، وهي في هذه الأيام تابعة لسلطان مصر، ويسقط البرَد في القيروان، ولكنه لا يمكث على أرضها، ويتجه البحر شمالاً ويسير ناحية اليمن إلى الأندلس.
وبين مصر والأندلس ألف فرسخ، وسكانها جميعًا مسلمون، وهي ولاية كبيرة جبلية، ينزل فيها البرَدُ ويتجمَّد، وسكانها بيض، وشعرهم أحمر، وأكثرهم كالصقالبة عيونهم كعيون القطط. وتقع الأندلس في نهاية بحر الروم، وكثيرًا ما يَغزون الروم من الأندلس، ومن الممكن أن يركب المسافر البرَّ إلى القسطنطينية إذا أراد، ولكن لا بد من اجتياز خلجان كثيرة، عرض كلٍّ منها مائتا فرسخ، أو ثلاثمائة لا يمكن اجتيازها إلا بالسفن.
وقد سمعت من ثقة أن محيط هذا البحر أربعة آلاف فرسخ، وأنَّ فرعًا منه يدخل بلاد الظلمات – كما يقال – وأن نهاية هذا الفرع متجمدة دائمًا، وأن الشمس لا تبلغه.
ومن جزائر هذا البحر صقلية، وتبلغها السفينة من مصر في عشرين يومًا، وهناك جزر كثيرة غيرها، ويقال إن صقلية ثمانون فرسخًا في ثمانين. وهي ملك سلطان مصر، وتغادرها – كل سنة – سفينة تحمل المال إلى مصر، ويجلبون منها كتَّانًا رقيقًا، وثيابًا منقوشة؛ يساوي الثوب منها – في مصر – عشرة دنانير مغربية.
وإذا سار السائر من مصر شرقًا يبلغ بحر القلزم، والقلزم مدينة على شاطئ البحر بينها وبين مصر ثلاثون فرسخًا. وهذا البحر فرعٌ من المحيط، يتفرع عند عدن ويتجه نحو الشمال، فإذا بلغ الفلزم انقطع. ويقال إن عرضه مائتا فرسخ، ويفصله عن مصر جبال وصحراء لا ماء فيها ولا نبات. ومن يريد [كذا!] ([6]) الذهاب إلى مكة من مصر يلزمه الاتجاه نحو الشرق، فإذا بلغ القلزم وجد طريقين؛ أحدهما بريٌّ، والآخر بحري، وهو يبلغ مكة من الطريق الأول في خمسة عشر يومًا، في صحراء طولها ثلاثمائة فرسخ، وتذهب عن هذا الطريق معظم القوافل الآتية من مصر. . . »([7]).
في النموذج الأول تاريخ، وضمير المتكلم المشاهد يخبر بما شاهد وراى، وفي النموذج الثاني يختفي ذلك الضمير، ويبرز بدله ضمير ناقل يصف ما أخبر به أو قرأه في كتاب، فهلم بنا نكمل معه الرحلة.
للموضوع صلة.
———–
([1])نشر، مخصترًا، في مجلة الواحة، العدد التاسع عشر، الربع الثالث، 2000م .
([2])اسمٌ مركَّب من كلمتين: سَفَر، وهي عربية- فارسية، ومعناها في العربية معروف، ونامه، وتعني في الفارسية (كتاب). المعجم الذهبي، محمد ألتونجي، وهو سِفرٌ وضعه ناصر خسرو في وصف رحلته إلى الشام، وفلسطين، ومصر، وجزيرة العرب.
([3])(1003 – 1088)، أو (1004- 1075): شاعر من بلخ، من أقطاب الأدب الفارسي، وداعية ديني فارسي، حج إلى مكة. وزار فلسطين وسوريا ومصر، وجزيرة العرب، من آثاره كتاب سفر نامه، وديوان شعر بالفارسية، وسعادت نامه، وفيهما يعبرعن آرائه شعرًا، وجامع الحكمتين حاول التوفيق فيه بين المعتقدات الاسماعيلية والفلسفة اليونانية. المنجد في الأعلام، وموسوعة المورد، منير بعلبكي، جـ7/102، ومقدمة كتاب (سفر نامه)، ناصر خسرو، ترجمة الدكتور يحيى الخشاب.
([4])انظر: سفر نامه (رحلة ناصر خسرو )، ص: 35.
([6])حقها الجزم: إذ انَّ؛ شبه جملة: (من يرد) مجزومة للشرط، والفعل المضارع: يلزم: جوابه، وحكمه الجزم أيضًا.