البلاغة نظرية نص نظرية الإنسان
جمال رسول
انخرطت في إحدى المرات في سلسلة لقاءات ليلية جمعتني مع مجموعة من الأخوة الأعزاء في تناول موضوعات البلاغة دراسة وتدريسا وتثقيفا، سواء كان ذلك بالحضور المباشر أو بالحضور عن بعد عبر التطبيقات الهاتفية. مثلت هذه اللقاءات فرصة جيدة للتعمق في فهم البلاغة وتحليل أبعادها المختلفة حيث كنا نتناولها كنظرية مفسرة. غير أني في إحدى اللحظات المنتقلة عبر الزمن، لحظة استحضار لذاكرتي، عبرت خلال فكرة امتدت كجسر زمني إلى حدث متسلسل الحلقات كجزء من اهتماماتي في الحياة سابقا. الفكرة حملتني عبر سني العمر إلى ما قبل، إلى سنوات تغنى فيها اللقاء والأصدقاء بالكلمة، وبالمعنى في جسده وروحه، حيث كنا -أنا وأصدقائي- نلتقي كمجموعة منتدى الغدير الأدبي، هناك كنا نعقد أمسيات السمر الفكري إشراقا لدى وعي كل منا بنمط عذب ونهج مستقل.
أجل كنا نتنقل في عوالم الأدب والفكر، ونستعرض المدارس الأدبية، ونغوص في عمق النصوص قراءة وتحليلا وتركيبا وتأويلا، ونتبادل التجربة مهارة وإبداعا. لم يكن ذلك بهدف الاستمتاع وحده، بل كان سعيا وراء فهم أعمق للوجود من خلال الكلمة.
كانت الحوارات تمثل الصورة في لوحة فكرية والحركة في مشهد درامي، تثرينا وعيا، وتعددنا أفقا. كانت تفتح لنا نوافذ جديدة على الذات والعالم، لقد كانت آلية تلقائية في رسم الاتجاه في محطات فارقة.
ومن خلال منظوري ومفهومي الخاص، يمكنني القول: إن تلك التجربة الطويلة كانت ممارسة حية للبلاغة بمعناها الواسع والشامل:
– الحوار كحياة متشابكة التواصل
– النص كروح حي متحرك
– أما نحن فكنا البناة والرعاة، كنا الهوى والاندماج، كنا الصورة والمشهد والحركة
فالبلاغة لم تكن فقط في الكلمة والمعنى، وإنما كانت تقاطعات في الحياة، فيما بيننا، في الطريقة التي أثرنا بها عقولنا، في تلك التي كانت تعبر مدخلات وعينا، وتنتج أشكالا أخر عنا.
هكذا استحضرت تلك اللحظات واللقاءات ليس رجوعا للماضي، وإنما تأملا فيما أنا اليوم، تأملا في دور اللغة فكرا، وتشكيلا لمسارات نختطها الآن وعيا في داخلنا.
البلاغة كما أفهمها في سياقها الآني، لم تعد مجرد دراسة لأساليب التعبير أو فنون الإقناع والتأثير، بل تطورت لتصبح جسرا فلسفيا وجوديا يمتد بين الإنسان والإنسان الآخر والنص كحضور في الواقع النصي، وبين النص والعالم أي بين النص في حالاته المتنوعة. إنها ليست فقط أداة تحليلية للنصوص، بل هي أكثر من ذلك، فيمكنني أن أعدها نظرية لفهم الإنسان ذاته بوصفه كائنا لغويا يقتات فكره على اللغة ويعيش فضاءاتها وفضاءاته مدمجة في كون معقد من التفكير والشعور والأحاسيس، ذي علاقات ووصلات واسعة وشاملة. فحين يقول المتنبي:
تناهى سكون الحسن في حركاتها فليس لراء وجهها لم يمت عذر
فإن التشبيه التشخيصي واضح في البيت، ولكن من منظور الفلسفة التأويلية نحتاج لفهم الطباق في النص بوصفه تجليا لمعنى مركب يرتبط بالسياق الثقافي لأطراف النص.
فالسكون والحركة متناقضان، بين اليمن والشمال، أو بين الصعود والنزول، فحيث يكون السكون يكون الثبات، وحيث تكون الحركة يكون التغير. إذن نحن الآن وهنا في هذا المشهد لدينا تجاوز في المفاهيم التقليدية يفتح النص على فضاء تأويلي يجمع جمال السكون والحركة في ذات الصورة، فالحسن في الحركات يظل ثابتا في تأثيره وجاذبيته.
بينما نجد النص من خلال طرفيه -الملقي والمتلقي- انعكاسا لتجربة تفرز رؤية جمالية للشاعر تربط بينه وبين العالم حوله فيعود الوصف وجدانا يلامس الوجود الإنساني ويدعو المتلقي للتأمل في العلاقة الجمالية القابعة حيث الرائي حينما يعيش حالة اندهاش تام.
ومن منظور فلسفي يمكنني القول: إن البلاغة تسعى من خلال قوالبها لفهم كيفي يبنى به المعاني وتصاغ به الأفكار لغة تؤثر في المتلقي. إذن، هي تتقاطع والفلسفة التأويلية في كيفية فهم النص وتأويله، بحثا عن عمق الكلمات الكامن في طياتها وفي محاولة الوصول إلى المعاني الأعمق التي تربط النص بالنص إضافة إلى السياقات الإنسانية والاجتماعية.
في حين أن البلاغة كظاهرة في تجربة بشرية مع النص تصبح حدثا تواصليا في العلاقة بالآخر، وهنا ينفتح النص كاملا في مساحة تجلي فكري وإحساس تفاعلي، بين المتنبي وبين الآخر.
البلاغة كلغة هي كائن يعيش العقل والوعي وأكثر من مجرد فن خطابي، هي توغل في الخطاب، في بيئة الخطاب، وفي فهم الإنسان بكلا طرفيه تواصلا، وعمقا، وأداء ووعيا.