فوضى التسميات 1] الموسوعة.. استعمال في غير محله نحو خطوة تصحيحية لتنظيم المعرفة وضمان أن تكون المسمّيات انعكاسًا

حسين منصور الشيخ

أثناء حديث عابر جمعني مع بعض المهتمّين تطرقنا فيه إلى بلدتنا القديح وأنها كانت تنقسم قديمًا إلى سيحات ثلاث، هي: رشالا والحليلة والقديح، لتندمج لاحقًا في مسمَّى واحد كانت الغلبة فيه للسيحة الشرقية من هذه البلدة. ليتركّز الحديث بعدها حول الفروق الفاصلة بين مسمّيات: القرية والسيحة والبلدة والمدينة والفريق والحيّ، وبخاصّة مع اختلاف إطلاقها على بعض الأمكنة في كتب التراث، إذ يمكن للمتتبّع أن يقف على ترجمة لبعض الشخصيات ويوصف بأنه وُلِد في «القرية» الكذائية، وفيما موضع آخر توصف بأنها «بلدة»، وفي موضع آخر يطلق عليها بأنه: «محِلَّة»، وغير ذلك من المسميات. لنخرج بأن هذه المصطلحات لا يمكن الوصول فيها إلى ضبط محدّد في المصادر التراثية، وحتى المصادر الحديثة.

ومّما يؤسف عليه أن مثل هذه الفوضى في التسميات يمكن ملاحظتها في مجموعة من المجالات والمصطلحات، حيث تُستعمل الكلمات دون مراعاة دقيقة لدلالاتها الأصلية أو حدودها الاصطلاحية. فهي ظاهرة لا تقف عند حدود الأخطاء الفردية أو الاستعمالات الاجتماعية، بل تمتد لتطال مؤلفات وإصدارات علمية وثقافية يُفترض فيها الالتزام بالدقة والأمانة في اختيار العناوين. ومن بين المصطلحات التي نالها هذا النوع من التسامح أو التساهل: مصطلح «الموسوعة»، الذي يُستعمل في غير محله عند الإشارة إلى أعمال ومؤلفات لا تنطبق عليها المعايير الأساسية لهذا المصطلح.

«الموسوعة»: الأصل والمفهوم والتسمية العربية

«الموسوعة» كلمة تعود في أصلها الاستعمالي إلى اللغة اليونانية، حيث اشتقت من «Enkyklios Paideia»، وتعني: التعليم الذي يشمل مختلف المعارف. لتتطور لاحقًا وتشير إلى المؤلفات التي تعرض مختلف فروع المعرفة البشرية بأسلوب منظم وشامل. وهي اليوم: مصطلح يُعرَّف بأنه المؤلَّف الذي يتضمن مطالب ثقافية شاملة أو معلومات وافية عن مختلف فروع المعرفة مرتبة وفق حروف الهجاء أو وفق منهج بحثي معين.

ولإطلاق مصلح الموسوعة على هذا المؤلَّف أو ذاك، لا بدّ أن يتميز بسمات محددة؛ فهي ليست مجرد تجميع لمواد علمية أو أدبية، بل تهدف إلى تقديم معرفة شاملة وعامة، أو معرفة متخصصة لكنها غنية وعميقة، تُعرض بأسلوب مبسط يسهل فهمه. ما يجعلها تختلف جوهريًّا عن المعجمات التي تقتصر على شرح معاني الكلمات دون التوسع في تحليل الموضوعات أو مناقشتها.

وحول إيجاد مقابل عربي دقيق لكلمة «Encyclopedia»، أطلق، في بدء هذه المحاولات، بطرس البستاني على موسوعته اسم «كوثر»، ليغيّره بعد ذلك إلى: «دائرة معارف»، بينما استعمل فريد وجدي مصطلح «كنز العلوم واللغة» قبل أن يستقرّ على مسمّى «دائرة معارف». وخلافًا لهما، اقترح الأب أنستاس الكرملي مصطلح «مَعْلَمَة» أي «وعاء العلم». ورأى إلياس القدسي عضو المجمع العلمي العربي في دمشق (مجمع اللغة العربية اليوم) أن كلمة «النون» هي التي تفي بالغرض مستدلًّا على ذلك بأن أحد معاني كلمة «النون» هو خلاصة جميع العلوم. وأما كلمة «موسوعة» التي شاع استعمالها أكثر من سواها، فقد وضعها اللغوي إبراهيم اليازجي [انظر: الموسوعة العربية، ج20/ ص 21 – 22].

عدم ضبط استعمال مصطلح «الموسوعة»

وخلافًا لمؤدّاها الذي نقلت عربيًّا إليه، يشيع استعمالها لغير ما وُضعت له، وبالخصوص في العقدين الأخيرين أو العقود الثلاثة الأخيرة، حيث تسمّى العديد من الإصدارات بالموسوعات، بينما لا تحمل هذه الإصدارات المعايير اللازمة لتوصيفها بهذا الاسم. فكثير مما سمي ويسمى «موسوعة» مؤخرًا ليس سوى مجموعة من مؤلفات أحد العلماء أو إرثه العلمي، وفي بعضها مجموعة كتب تدور حول موضوع علمي واحد. وهو استعمال يبتعد عن جوهر المصطلح الذي يُفترض فيه الشمول والتنوع.

إنّ تسمية مؤلفات عالم واحد بـ «الموسوعة» توحي بأن ما تحتويه مؤلفاته يغطي مختلف فروع المعرفة، بينما هي في الواقع تجميع لنتاجه في مجال أو مجالات محددة. وحتى في حالة شمول هذه المؤلفات، يبقى المصطلح ملتبسًا؛ لأنه يتناقض مع الفهم المتعارف عليه عالميًّا للموسوعة.

وكم يصعب عليّ في بعض المواقف وضع عناوين هذه الإصدارات ضمن قائمة المصادر، حيث يبتعد محتواها، فكيف يكون مسمّى «الموسوعة الجامعة لمصطلحات الفكر العربي والإسلامي» مطابقًا لما حواه الكتاب من تعريفات لهذه المصطلحات، التي كان يكفي جامعها أن يكتفي في تسمية كتابه بحذف الكلمتين الأوليين؟!، وفي إصدار مشابه، تصدر هذه الدار، وهي من أعرق الدور العربية في وضع المعاجم وإخراجها بصورة محكمة، مجموعة من الكتب التي بدأتها بكلمة «موسوعة» ويعقبها عناوين مثل: «مصطلحات التصوّف الإسلامي»، «مصطلحات الفلسفة عند العرب»، «مصطلحات علم المنطق عند العرب». بل إنّ هذه الدار، غيّرت في مسمّيات بعض الكتب التراثية، فأصدرت، مثلًا، كتاب «كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم» للتهانوي بأن وضعت كلمة «موسوعة» أمام مسمّى الكتاب الأصل، وهكذا فعلت الأمر ذاته كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم» لطاش كبرى زاده.

وهذه جميعها لا تعدو كونها معاجم، ما كان ينبغي أن يطلق عليها مسمّى الموسوعات.

وقريبًا ممّا فعلته هذه الدار، عنون به المرحوم الشيخ عبد الله العلايلي كتابه المعجم، إذ وضع له عنوانًا فرعيًّا هو: «موسوعة لغوية علمية فنية».

العودة إلى الدقة في التسميات

إن إطلاق مسميات دقيقة على الأعمال والإصدارات ليس مجرد مسألة لغوية، بل هو ضرورة ثقافية وأخلاقية تحمي المصطلحات من التشويه، وتضمن وضوح المعاني ودقتها. ولذلك، بدلًا عن تسمية مجموعة أعمال كاتبٍ مّا بـ «الموسوعة»، يمكن استعمال مفردات أخرى، مثل: «مجموعة مؤلفات…» أو «التراث العلمي لـ…»، وغيرها من التسميات الملائمة. فقد صدرت مجموعات سابقًا بهذه العناوين، من قبيل: «طه حسين المجموعة الكاملة»، «سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد»، «تراث الشيخ الأنصاري».

إن إعادة الاعتبار لهذه المصطلحات والتسميات، وتركها ضمن حدودها الصحيحة، خطوة أساسية نحو تنظيم معرفتنا، وضمان أن تكون كلماتنا انعكاسًا صادقًا لمعانيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×