ذاكرة الحجر الأخير
قصة قصيرة: عبدالله النصر
(حسن) يقف أمام قصر إبراهيم، مغمورًا بهيبة الحجر الذي يبتلع الزمن، وعيناه تتسلقان القباب التي تبدو كأقواس السماء. الرياح الساخنة تحمل معها رائحة الطين القديم، كأنها أنفاس القصر نفسه. يشعر بشيء غريب يثقل صدره، ليس خوفًا، بل حنينًا غامضًا، كأنه زار هذا المكان في حياة أخرى.
يقول (عباس)، صديقه، وهو يشير إلى المئذنة العالية.
– أتعرف، يا حسن؟
– هذا القصر… كأنه يحتفظ بكل من دخله. كأن الحجر ذاكرة، لكنه لا يفشي أسراره إلا لمن يصغي.
يهز حسن رأسه بصمت، عينيه تتفحصان الزخارف والجدران المتصدعة، وكأنها تخفي ما لا يقال.
يدخلان عبر المدخل المكسور إلى الساحة الواسعة. خطواتهما تخط أنغامًا باهتة على الأرضية الحجرية. يهمس عباس وهو يشير نحو القبو:
– لنذهب هناك… أريد أن أرى أعماقه.
حسن يتردد، لكن شيئًا داخله يدفعه. يتذكر حين كان طفلًا صغيرًا، عندما اصطحبه والده إلى هذا القصر. كان المكان صامتًا لكنه يضج بأصوات لم يسمعها غيره، كأن الجدران تهمس بشيء يخصه وحده.
عندما يصلا إلى القبو، يُشعل حسن مصباح هاتفه، فتطارد أشعته الجدران الرطبة التي تنبض كأوردة بشرية. فجأة، تعترض قدمه شيئًا صغيرًا. ينحني ليرى حجرًا أملس، صغيرًا، منقوشًا برموز تشبه عينًا مفتوحة.
– انظر إلى هذا الحجر، عباس. كأنه جزء من شيء أكبر.
يمسك عباس بالحجر، يتفحصه بعينين فضوليتين، ثم يقول:
– ربما هو المفتاح.
يتجهان إلى الحمام البخاري، حيث رطوبة الهواء تجعل التنفس ثقيلًا. يشعل حسن شمعة قديمة وجدها على الأرض. الضوء يرتعش على الجدران، كأن المكان يتنفس معهم. عباس يجلس على الأرض، ممسكًا الحجر، عينيه مثبتتان عليه.
– هذا المكان… كأنه حي. كل صوت، كل دمعة، كل صرخة محبوسة هنا.
ينظر حسن إليه بقلق.
– عباس، أنت تبالغ.
– ألا ترى؟ الحجر ينبض. أسمعه يهمس.
الصمت يحيط بهما، لكنه ليس صمتًا عاديًا. إنه ثقل. الحجر يزداد سخونة في يد عباس، وضوءه الخافت يتحول إلى وهج أحمر. الهواء في الغرفة يبدأ بالاهتزاز، كأن القصر يفيق من سبات.
يحاول حسن أن يأخذ الحجر، لكن قوة غريبة تسحبه بعيدًا.
– دع الحجر، عباس! إنه خطر!
لكن عباس لا يتحرك. صوته ينخفض إلى همسة:
– إنه يدعوني… سأعرف الحقيقة.
الأرضية تهتز بشدة. فجأة، ينفتح ثقب عميق تحت عباس، دوامة من العتمة تبتلعه. يصرخ حسن ويحاول الإمساك به، لكن يده تلامس الفراغ. الحجر يسقط، يصطدم بالأرض، وتهدأ الغرفة كأن شيئًا لم يكن.
يجلس حسن على الأرض، يرتعش، عيناه تحدقان في الحجر. النقوش تغيرت. الآن، هناك وجه مألوف، وجه عباس، ينظر إليه بابتسامة متحجرة.
يرفع حسن الحجر، يسمع صوتًا خافتًا ينبعث منه، صوت صديقه:
– أنا هنا… داخل الذاكرة.
يتراجع حسن، يضع الحجر أرضًا، ويهرب خارج القصر.
في الخارج، يقف حسن عند البوابة، أنفاسه تتلاحق كأنه يهرب من حلم ثقيل. الرياح تضرب المئذنة العالية، لكنها تبدو كهمسات تطارده. يحاول أن يقنع نفسه أنه ترك القصر خلفه، لكن إحساسًا داخليًا يقول له إنه لم يتركه أبدًا.
يغمض عينيه للحظة، ثم يفتحهما ليجد وجه عباس يتجلى في الزوايا المعتمة لعقله، يبتسم بابتسامة غامضة. القصر لم يتركه، كما لم يترك عباس. إنه ليس مجرد بناء، بل ذاكرة حية، تبتلع كل من يجرؤ على الغوص في أعماقها.
في تلك اللحظة، حسن يلمح الحجر مجددًا بجانبه. يداه ترتجفان بينما عيناه تلاحقانه. الهمسات تتصاعد في رأسه، صدى صوت عباس يتداخل مع أصوات أخرى لا يفهمها. يمد يده نحو الحجر، لكنه يتوقف. للحظة، يتساءل:
– هل أنا التالي؟.
الحجر يتوهج بخفوت، كأن الإجابة تنتظره داخله، وكأن القصر لا يرضى بذاكرة ناقصة.