رَمضان: جسرُ الغياب إلى نورٍ لا يُستقرُّ

نازك الخنيزي
عند تخومِ الصمت، حيث تذوبُ الكلماتُ كما يذوبُ الملحُ في البحر، يولدُ رمضان… ليس اسمًا، بل إشارةٌ إلى ما لا يُقال، إلى ما يفلتُ من قبضةِ الحروفِ ويُمسِكُه القلبُ في سرِّ الغياب. هوَ انشقاقُ النواةِ في عُمقِ الليل، ورجفةُ الأرواحِ وهي تتعرَّى أمام المرآةِ الأخيرة.
هناك، حيث يُطوى الزمنُ في شقوقِ العارفين، وحيثُ تتناسلُ الأزمنةُ بين وَهَجِ الذكرِ وسكينةِ النسيان، يمتدُّ جسرٌ من أنفاسِ الملائكة: من حنينِ الأرضِ إلى قُبلةِ القمر، من ارتعاشةِ الماءِ في كفِّ المتوسلين. الحدودُ تبهتُ كأنها سرابٌ في مرايا النور، والحروفُ تذوبُ في لجَّةِ المعنى، حتى يصيرَ الصمتُ لغةً جديدةً لا تُدرَكُ إلا بالغرق.
في ليلِ رمضان، حينَ تُكشَفُ الأسماءُ كما تُكشَفُ جذورُ الشجرِ للريح، تصبحُ المعاني صدىً لما هو أبعدُ من الحروف: الصوم: جُرحُ الجسدِ الذي تلتئمُ به الروح، القرآن: ارتعاشةُ الوجودِ أمام نداءِ الغيب، التراويح: خطواتُ العائدينَ إلى منازلِ النورِ الأولى.
أيها العابرُ في مدينةِ المرايا، هل ترى؟ كيف يحملُ الليلُ مفاتيحَ الغيبِ في جيوبه؟ كيف يسحبُ الفجرُ من عينيهِ خيوطَ الذهبِ الأخيرة؟ رمضانُ ليس زمنًا، بل خيطٌ بين العدمِ والتجلِّي، هو اللحظةُ التي تُسقِطُ القناع، فتجدُ نفسكَ مجرَّدَ انعكاسٍ في عينِ المطلق.
الوجودُ حين يصيرُ ظلًّا للحقيقة:
1.مصباحُ الليل: أضئ كلماتَكَ بزيتِ الذكر، لتُبصِرَ بها وجهَك الحقيقي.
2.خوذةُ النور: لا تجعل من صومِكَ سياجًا، بل بوابةً إلى ما وراء الظلال.
3.وليمةُ العدم: على مائدةِ الحقيقة، يذوبُ الجسدُ كالوهم، ولا يبقى إلا الأنفاس.
رمضان… أن تُصغي إلى الفراغ، أن تُصافحَ العدمَ، فيمنحُكَ جذوةَ الوجود، أن تُسقِطَ عنكَ الكلماتِ، فتكتشفَ صمتَكَ الأول، أن تعبرَ الحُدود، فتدركَ أنَّ الإفطارَ الحقيقيّ هو انكشافُكَ في حضرةِ المطلق.
رمضان… ليس ظلًّا للوقتِ، بل نافذةٌ على اللّا وقت، حيثُ الحقيقةُ ليستَ هناك، بل هُنا، حيثُ الامتلاءُ ليس طعامًا، بل فناءٌ في الذكر. فاقرأْ نفسكَ كآيةٍ لا نهايةَ لها، ودع الصمتَ يُتمُّ ترتيلَ النور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×