ورقة نقدية في رواية محمد الحميدي “صمت”

كتب القراءة: القاص عبدالله النصر
ملخصُ الرواية:
تحكي الروايةُ عن فتىً وُلِدَ صامتًا في قريةٍ نائيةٍ يعيشُ فيها الفقرُ المُدقِعُ. يعيشُ الفتى مع أمِّهِ التي تُكافحُ من أجلِ توفيرِ الطعامِ، بينما هو يعملُ في مزرعةِ عمِّهِ القاسي (عبو)، حيثُ يتعرَّضُ للاستغلالِ والعُنفِ. خلالَ طفولتِهِ، يجدُ الفتى عزاءَهُ في الصمتِ، الذي يُصبحُ جزءًا من هويتِهِ ووسيلتَهُ للتواصلِ مع العالمِ من حولِهِ، خاصَّةً مع الأرضِ التي يعملُ عليها.
في مرحلةٍ لاحقةٍ، يتمُّ اختطافُ الفتى من قبلِ مجموعةٍ غامضةٍ تريدُ استخدامَهُ في مهمةٍ خطيرةٍ تتعلَّقُ بسرقةِ وثائقَ من منزلِ قائدٍ عسكريٍّ. بعدَ إتمامِ المهمةِ، يتمُّ تبنِّي الفتى من قبلِ القائدِ وزوجتِهِ، حيثُ يبدأُ حياةً جديدةً مليئةً بالرفاهيةِ، لكنَّهُ يظلُّ مرتبطًا بالصمتِ الذي يعتبرُهُ ملاذَهُ الآمنَ. خلالَ رحلتِهِ، يكتشفُ الفتى علاقةً معقَّدةً مع الصمتِ، يتأرجحُ بين الانسجامِ معَهُ والرغبةِ في كسرِهِ، خاصَّةً عندما يلتقي بـ(سولا)، الخادمةِ التي تُقرِّبُهُ من عالمِ الكلامِ والمشاعرِ.
يأخذُهُ القائدُ الذي تبنَّاهُ، للعودةِ إلى قريتِهِ مجدَّدًا عبر السفينةِ التي واجهتِ الأمطارَ والعواصفَ الشرسةَ في البحرِ الهائجِ، فابتلعتْهمُ الأمواجُ جميعًا.
محمد الحميدي
الثيمةُ المهمة في الروايةِ: الصمتُ كقوَّةٍ وهويَّةٍ:
إحدى الثيماتِ الرئيسةِ في روايةِ (صمت) هي فكرةُ الصمتِ كقوَّةٍ وهويَّةٍ. فالصمتُ هنا ليسَ مجرَّدَ غيابٍ للكلامِ، بل هو لغةٌ بحدِّ ذاتِها تُعبِّرُ عن حالةِ البطلِ الداخليَّةِ وتشكلُ جزءًا أساسيًّا من هويتِهِ. البطلُ، الذي وُلِدَ صامتًا، يجدُ في الصمتِ ملاذًا من عالمٍ مليءٍ بالضوضاءِ والعنفِ، فيصبحُ وسيلتَهُ للتواصلِ مع العالمِ، خاصَّةً مع الأرضِ التي يعملُ عليها، حيثُ يرى فيها صديقًا صامتًا مثلَهُ.
من خلالِ الصمتِ، يستطيعُ البطلُ حمايةَ نفسِهِ من الأذى النفسيِّ والجسديِّ الذي يتعرَّضُ له، سواءٌ في طفولتِهِ الفقيرةِ أو في مرحلةِ الاختطافِ. لكنَّ الصمتَ، رغمَ كونهِ درعًا يحميهِ، يتحوَّلُ أيضًا إلى سجنٍ يعزِلُهُ عن الآخرينَ، خاصَّةً عندما يبدأُ في اكتشافِ مشاعرَ جديدةٍ تجاهَ (سولا) ، الخادمةِ التي تُقرِّبُهُ من عالمِ الكلامِ والمشاعرِ. هنا، يتأرجحُ بينَ التمسُّكِ بصمتِهِ كجزءٍ من هويتِهِ والرغبةِ في كسرِهِ للتواصلِ مع الآخرينَ.
تعكسُ هذهِ الثيمةُ فكرةَ أنَّ الصمتَ قد يكونُ قوَّةً تحمي الإنسانَ، لكنَّهُ في الوقتِ نفسِهِ قد يعزِلُهُ عن العالمِ. كما تطرحُ الروايةُ أسئلةً عميقةً حولَ الهويَّةِ، وكيفَ يمكنُ للصمتِ أن يكونَ وسيلةً للتعبيرِ عن الذاتِ في عالمٍ يغمرُهُ الضجيجُ.
عبدالله النصر
قراءتُنا الأدبيَّةُ للروايةِ:
تقدِّمُ روايةُ (صمت) رؤيةً عميقةً عن العزلةِ والهويَّةِ، متناولةً الصمتَ كوسيلةٍ للتواصلِ مع الذاتِ والعالمِ. يستخدمُ الكاتبُ الصمتَ كرَمزٍ قويٍّ يعكسُ الحالةَ النفسيَّةَ والاجتماعيَّةَ للبطلِ، فهو ليسَ مجرَّدَ غيابٍ للكلامِ، بل لغةٌ بحدِّ ذاتِها تعبِّرُ عن الألمِ، الحزنِ، وأحيانًا الفرحِ. تتعمَّقُ الروايةُ في العلاقةِ بينَ الصمتِ والوجودِ، موضحةً كيفَ يمكنُ أن يكونَ ملاذًا أو سجنًا، تبعًا للظروفِ.
يعتمدُ الكاتبُ على أسلوبٍ سرديٍّ شاعريٍّ، مشحونٍ بالوصفِ الدقيقِ والمشاعرِ العميقةِ، ممَّا يتيحُ للقارئِ التوغُّلَ في أعماقِ البطلِ. كما تطرحُ الروايةُ أسئلةً وجوديَّةً حولَ معنى الحياةِ والعلاقاتِ الإنسانيَّةِ، مُظهرةً كيفَ يمكنُ للصمتِ أن يكونَ أداةً لفهمِ الذاتِ والعالمِ.
(صمت) عملٌ أدبيٌّ بأسلوبٍ سرديٍّ خاصٍّ ومتميِّزٍ، يعكسُ تجربةً إنسانيَّةً عميقةً، متناولًا موضوعاتٍ جوهريَّةً كالعزلةِ، الصمتِ، العلاقاتِ الإنسانيَّةِ، والصراعِ الداخليِّ للشخصيَّةِ الرئيسةِ.
ومن خلالِ تحليلِ عناصرِهِ الروائيَّةِ، يمكنُ تقييمُ مدى تحقيقِهِ لمتطلَّباتِ الروايةِ كفنٍّ أدبيٍّ متكاملٍ:
أوَّلًا: الحبكةُ:
تتبعُ الروايةُ حياةَ بطلِها الذي يعيشُ في صمتٍ دائمٍ منذُ ولادتِهِ. تتمركزُ الحبكةُ حولَ تطوُّرِ شخصيَّتِهِ وتفاعُلِهِ مع العالمِ من حولِهِ، خاصَّةً في علاقتِهِ مع الصمتِ، الذي يُصبحُ جزءًا من هويتِهِ. يشهدُ السردُ تطوُّرًا دراميًّا، لا سيَّما عندَ انتقالِ البطلِ من قريتِهِ الفقيرةِ إلى عالمٍ جديدٍ في إسطنبولَ، حيثُ يلتقي بأشخاصٍ جُدُدٍ ويخوضُ تجاربَ تغيِّرُ نظرتَهُ للحياةِ والصمتِ. ومعَ ذلكَ، لا تتَّبعُ الحبكةُ بناءً تقليديًّا ذا بدايةٍ ووسطٍ ونهايةٍ واضحةٍ، بل ترتكزُ على التدفُّقِ الداخليِّ لأفكارِ البطلِ ومشاعرِهِ، مما يجعلُها أقربَ إلى التجربةِ التأمُّليَّةِ.
ثانيًا: الشخصيَّاتُ:
- الشخصيَّةُ الرئيسةُ: البطلُ الصامتُ، الذي يعيشُ في عالمِهِ الخاصِّ ويتفاعلُ معَ العالمِ الخارجيِّ بشكلٍ محدودٍ. تتَّسمُ شخصيَّتُهُ بالتعقيدِ والغِنَى، إذ يعاني من صراعٍ داخليٍّ بينَ رغبتِهِ في الصمتِ وحاجتِهِ للتواصلِ معَ الآخرينَ.
- الشخصيَّاتُ الثانويَّةُ: مثل (سولا) والوالدَينِ بالتبنِّي، تضيفُ عمقًا للسردِ، إذ تُظهِرُ أبعادًا مختلفةً من شخصيَّةِ البطلِ. تمثِّلُ (سولا) نقطةَ تحوُّلٍ رئيسةً في حياتِهِ، حيثُ تدفعُهُ للخروجِ جزئيًّا من صمتِهِ.
- الشخصيَّاتُ الأخرى: مثلَ (العمِّ عبو) و (أمِّ البطلِ)، تعكسُ البيئةَ الاجتماعيَّةَ والثقافيَّةَ التي نشأَ فيها، مُضيفةً بُعدًا نفسيًّا واجتماعيًّا للروايةِ.
ثالثًا: الموضوعاتُ:
- الصمتُ: يُعدُّ الموضوعَ الرئيسَ في الروايةِ، حيثُ يُستكشفُ ليسَ كغيابٍ للكلامِ فحسبُ، بل كعالمٍ مستقلٍّ يتفاعلُ معهُ البطلُ بعمقٍ نفسيٍّ ووجوديٍّ.
- العزلةُ والانفصالُ: يعيشُ البطلُ في عزلةٍ دائمةٍ، سواءٌ في قريتِهِ الفقيرةِ أو بعدَ انتقالِهِ إلى إسطنبولَ، مما يعكسُ صراعَهُ الداخليَّ معَ ذاتِهِ والعالمِ من حولِهِ.
- الهويَّةُ والانتماءُ: يعاني البطلُ أزمةَ هويَّةٍ، خاصَّةً بعدَ أنْ يتمَّ تبنِّيهِ من قِبَلِ عائلةٍ جديدةٍ في إسطنبولَ، حيثُ يتساءلُ عن مكانِهِ الحقيقيِّ في هذا العالمِ.
- العلاقاتُ الإنسانيَّةُ: تعكسُ علاقتُهُ بـ (سولا) صراعَهُ بينَ رغبتِهِ في التواصلِ وخوفِهِ من كسرِ صمتِهِ، مما يضيفُ بُعدًا عاطفيًّا للروايةِ.
رابعًا: اللغةُ والأسلوبُ:
- اللغةُ شعريَّةٌ، تتضمَّنُ صورًا بلاغيَّةً واستعاراتٍ كثيفةً، حيثُ يُوظِّفُ الكاتبُ الصمتَ كرَمزٍ قويٍّ يُجسِّدُ الحالةَ الداخليَّةَ للبطلِ.
- الأسلوبُ السرديُّ يعتمدُ على التدفُّقِ الحُرِّ للأفكارِ، حيثُ تُقدَّمُ مشاعرُ البطلِ وأفكارُهُ بشكلٍ غيرِ مُنتظمٍ، ليعكسَ فوضى عالمِهِ الداخليِّ.
- الرمزيَّةُ تُوظَّفُ بوضوحٍ، خاصَّةً في وصفِ البيئةِ، مثلَ الأرضِ والسماءِ، حيثُ تُجسِّدُ حالَتَهُ النفسيَّةَ المتغيِّرةَ.
خامسًا: الزمانُ والمكانُ:
- يلعبانِ دورًا جوهريًّا في تشكيلِ العالمِ الروائيِّ؛ إذ تبدأُ القصةُ في قريةٍ فقيرةٍ تُجسِّدُ العزلةَ، ثمَّ تنتقلُ إلى إسطنبولَ، التي تمثِّلُ العالمَ المليءَ بالتحدِّياتِ والفرصِ.
- التبايُنُ بينَ القريَةِ وإسطنبولَ يُجسِّدُ التحوُّلاتِ التي يمرُّ بها البطلُ، حيثُ تتجلَّى الفروقاتُ بينَ الفقرِ والثراءِ، العزلةِ والانفتاحِ، والتأمُّلِ والتفاعلِ.
سادسًا: الرَّاوي:
- الرَّاوي هو البطلُ نفسُهُ، حيثُ يروي القصةَ من منظورِهِ الداخليِّ، ممَّا يُضفي على السردِ طابعًا حميميًّا.
- رَاوٍ غيرُ مُوثوقٍ تمامًا، إذ تتغيَّرُ مشاعرُهُ وأفكارُهُ باستمرارٍ، مما يعكسُ حالَتَهُ النفسيَّةَ المتقلِّبةَ وعدمَ استقرارِهِ الداخليِّ.
* إيجابياتُ الروايةِ حسبَ وجهةِ نظري:
أولًا: العُمقُ النفسيُّ:
تُقدِّمُ الروايةُ استكشافًا دقيقًا للحالةِ النفسيَّةِ للبطلِ، حيثُ يُصبحُ الصمتُ ليسَ مجردَ غيابٍ للكلامِ، بل حالةً نفسيَّةً معقَّدةً تتكوَّنُ من الألمِ، العُزلةِ، والبحثِ عن الذاتِ.
مثال ١: في الصفحاتِ الأولى، يُشيرُ البطلُ إلى ولادتِهِ الصامتةِ وكأنَّ الصمتَ كانَ جزءًا من وجودِهِ منذُ البدايةِ:
(وُلِدتُ معَ الصَّمتِ، ووُلِدَ الصَّمتُ معي. لم أتكلَّم. لم أصرخ. لم أُصدرْ أيَّ حركةٍ وقتَ وِلادتي..)
هذا يُظهِرُ كيفَ أنَّ الصمتَ لم يكنْ حالةً طارئةً، بل كانَ متجذِّرًا في شخصيَّتِهِ منذُ البدايةِ.
مثال ٢: في موضعٍ آخرَ، يتحدَّثُ البطلُ عن علاقتِهِ بالأرضِ، حيثُ يُصبحُ الصمتُ جسرًا خفيًّا بينَهُ وبينَ العالمِ من حولِهِ:
(الأرضُ صامتةٌ وأنا صامتٌ، والحديثُ بيني وبينَها يدورُ بصمتٍ..)
هذا يُبرزُ كيفَ تحوَّلَ الصمتُ إلى لغةٍ تواصُليَّةٍ غيرِ منطوقةٍ بينَهُ وبينَ الطبيعةِ.
ثانيًا: الرَّمزيَّةُ القويَّةُ:
تُقدِّمُ الروايةُ الصَّمتَ ليسَ كغيابٍ للكلامِ فحسبُ، بل كرمزٍ عميقٍ يُجسِّدُ العُزلةَ، الحمايةَ، والهويَّةَ.
مثال ١: في الصفحةِ ١٥ تقريبًا، يُشيرُ البطلُ إلى أنَّ الصمتَ لم يكنْ ضعفًا، بل قوَّةً تُحصِّنُهُ من العالمِ:
(الصمتُ أعمقُ علاقةٍ نشأتْ بيني وبينَ الأرضِ.. الصمتُ هوَ المُهِمُّ، بَدوتُ عاشقًا للصمتِ..)
هنا، يُصبحُ الصمتُ درعًا واقيًا، يحميهِ من ضوضاءِ الحياةِ وأذى الآخرينَ.
مثال ٢: في الصفحةِ ٢٠ تقريبًا، يتحوَّلُ الصمتُ إلى ما يُشبهُ اللغةَ، حيثُ يُسمِّي البطلُ تواصلَهُ معَ الأرضِ بـ (لغةِ الصمتِ):
(قرَّرتُ أنْ أُسمِّيَها ‘لغةَ الصَّمتِ’.. الأرضُ صامتةٌ وأنا صامتٌ، والحديثُ بيني وبينَها يدورُ بصمتٍ..)
هذا يُضفي على الصمتِ بُعدًا فلسفيًّا، حيثُ يُصبحُ وسيلةً لفهمِ العالمِ وليسَ مجردَ غيابٍ للصوتِ.
ثالثًا: الأسلوبُ الأدبيُّ:
يستخدمُ الكاتبُ لغةً شاعريَّةً تتخلَّلُها صورٌ بلاغيَّةٌ واستعاراتٌ دقيقةٌ، تُضفي على السردِ طابعًا فنيًّا خاصًّا.
- مثال ١: في الصفحةِ ٥ تقريبًا، يُبرزُ البطلُ التناقُضَ بينَ صمتِهِ وضجيجِ الآخرينَ، خاصَّةً عندَما يتحدَّثُ عن النساءِ اللواتيَ يَثرثرنَ بلا توقُّفٍ:
(النِّساءُ يَثرثرنَ طيلةَ النَّهارِ معَ أُمِّي.. اعتادَتْ على أحاديثِهِنَّ التَّافهةِ..).
هذا التبايُنُ يُعمِّقُ شعورَ العُزلةِ لدَى البطلِ، حيثُ يبدو العالمُ من حولِهِ مُحمَّلًا بالضوضاءِ بينما هوَ غارقٌ في صمتِهِ.
- مثال ٢: في الصفحةِ ٢٥ تقريبًا، يُشيرُ البطلُ إلى التحوُّلِ النَّفسيِّ الذي طرأَ عليهِ عندَما التقى بـ سولا، حيثُ بدأَ صمتُهُ في الانكسارِ:
- (بدأتْ علاقتي بالصمتِ في الانكسارِ منذُ ذلكَ الحينِ؛ عندَما نطقتُ أمامَها..)
هنا، لا يُشيرُ السَّردُ إلى كسرِ الصمتِ فحسبُ، بل إلى تغيُّرٍ جذريٍّ في هويَّةِ البطلِ، حيثُ بدأتِ الكلماتُ تتسرَّبُ إلى عالمِهِ الصامتِ.
إخفاقاتُ الروايةِ:
كما أن لكلِّ عملٍ أدبيٍّ جوانبَ مشرقةٍ، فإنه لا يخلو من بعض الإخفاقات التي قد تؤثر على تجربة القارئِ، حتى وإن كان العملُ مكتملًا من زاويةٍ معينةٍ. فيما يلي بعض النقاط التي قد يراها البعضُ إخفاقاتٍ في رواية (صمتٍ):
أولًا: الوتيرةُ البطيئةُ، قد يجد بعضُ القراءِ أن الروايةَ تميل إلى بطءٍ في سيرِ الأحداثِ، خاصةً في الأجزاءِ التي تركز بشكلٍ مكثفٍ على تأملاتِ البطلِ الداخليةِ. على الرغمِ من عمقِ تلك التأملاتِ، إلا أن القارئَ قد يشعرُ بأنها تبطئُ من تقدمِ السردِ.
- مثالٌ ١: في الصفحةِ ٣٠ تقريبًا، يتحدثُ البطلُ عن تأملاته العميقةِ حولَ الصمتِ وكيفَ أصبحَ جزءًا من حياته: (التفكيرُ الذي أقودهُ في صمتي، والنتائجِ التي لا أحصلُ عليها، وكثرةُ النظرِ، والغوصُ في التأمّلاتِ..) على الرغمِ من أن هذه التأملاتِ تعكسُ الحالةَ الداخليةَ للبطلِ، إلا أن تكرارها قد يجعلُ القارئَ يشعرُ ببطءِ الأحداثِ.
- مثالٌ ٢: في الصفحةِ ٤٠ تقريبًا، يتحدثُ البطلُ عن تأملاته في الطبيعةِ، حيثُ يصفُ مشاهدَ طويلةٍ: (جلستُ على الكرسيِّ أحدّقُ في السماءِ والأزهارِ والسورِ.. بعضُ العصافيرِ تأتي وتذهب..) بينما هذه المشاهدُ مليئةٌ بالجمالِ والتفاصيلِ، قد يجدُ القارئُ أن هذا البطءَ في الوصفِ يخففُ من إيقاعِ الروايةِ.
ثانيًا: التركيزُ الزائدُ على الصمتِ رغم أن الصمتَ يشكلُ جوهرَ الروايةِ، قد يصبحُ التركيزُ عليه مفرطًا في بعضِ الأجزاءِ، مما يسببُ شعورًا بالمللِ أو الاستنفادِ للموضوعِ.
- مثالٌ ١: في الصفحةِ ٥٠ تقريبًا، يعودُ البطلُ ليتحدثَ عن الصمتِ كأعمقِ علاقةٍ بينه وبين الأرضِ: (الصمتُ أعمقُ علاقةٍ نشأت بيني وبين الأرضِ.. الصمتُ هو المهمُّ..) هذا التكرارُ قد يجعلُ القارئَ يشعرُ أن الموضوعَ قد تم استنفادهِ، خصوصًا في حالةِ تعبيرهِ المتكررِ بنفسِ الطريقةِ.
- مثالٌ ٢: في الصفحةِ ٦٠ تقريبًا، يواصلُ البطلُ التأكيدَ على قوةِ الصمتِ كجزءٍ أساسيٍّ من وجودهِ: (الصمتُ يبدو قويًّا، القوةَ التي يحتاجُ إليها الكلُّ..) هذه التركيزاتُ المتكررةُ قد تصبحُ مملةً للقارئِ الذي يتمنى أن يتطورَ الموضوعُ إلى موضوعاتٍ أخرى أو أحداثٍ جديدةٍ.
ثالثًا: قلةُ الحوارِ نظرًا للطبيعةِ الصامتةِ للبطلِ، قد يفتقدُ القارئُ الحواراتِ التفاعليةِ بين الشخصياتِ، مما يؤثرُ على عمقِ العلاقاتِ بينهما ويجعلُ التفاعلَ بينها أقلَّ وضوحًا.
- مثالٌ ١: في الصفحةِ ٧٠ تقريبًا، يتحدثُ البطلُ عن علاقتهِ بسولا، ولكن معظمُ السردِ يأتي من جانبٍ واحدٍ: (سولا تحدّثت عن الرجالِ.. وضعت يدي على يدها؛ ظهرت علاماتُ التعجّبِ في عينيها.. ) هذا النقصُ في التفاعلِ الحواريِّ قد يجعلُ العلاقةَ بين الشخصياتِ أقلَّ تفاعلًا وثراءً.
- مثالٌ ٢: في الصفحةِ ٨٠ تقريبًا، يذكرُ البطلُ علاقتهِ بوالديه، لكن الحوارَ يكونُ غائبًا تقريبًا، حيثُ يقولُ: (والداي لا يكترثان لي مؤخرًا.. ربما بسببِ انشغالهما..) عدمُ وجودِ حواراتٍ ملموسةٍ يجعلُ الشخصياتِ تبدو أقلَّ تفاعلًا أو صعوبةً في بناءِ علاقاتٍ عميقةٍ معهم.
وهذه الإخفاقاتُ في الروايةِ تتعلقُ بالبطءِ في تطورِ الأحداثِ بسبب التركيزِ الزائدِ على التأملاتِ الصامتةِ والبطلِ الصامتِ نفسه. بالإضافةِ إلى قلةِ الحوارِ الذي يضعفُ من تفاعلاتِ الشخصياتِ. لكن، هذه النقاطُ قد تكونُ جزءًا من نيةِ الكاتبِ في تقديمِ رؤيةٍ خاصةٍ ومختلفةٍ عن العلاقاتِ والتواصلِ، مما قد يراه البعضُ تحديًا سرديًا، بينما يراه آخرون عائقًا.
خلاصة القراءة:
روايةُ (صمتٍ) تتميّزُ بأسلوبٍ شعريٍّ وتأمّليٍّ يمنحُها طابعًا فريدًا، لكنه قد لا يكونُ (روائيًّا) بالمعنى التقليديِّ. تعتمدُ على لغةٍ شاعريةٍ وتأملاتٍ داخليةٍ تُضفي عليها عمقًا وجماليةً، غير أنّها تفتقرُ إلى التوازنِ بين الأحداثِ الخارجيةِ والحالةِ النفسيةِ للبطلِ، مما يجعلُ وتيرتَها بطيئةً، خاصةً لمن يفضّلون السردَ السريعَ والحواراتِ التفاعليةِ.
على المستوى الفنيّ، تستندُ الروايةُ إلى رمزيةٍ قويةٍ تُجسّدُ موضوعاتٍ عميقةً كالصمتِ، العزلةِ، والهويةِ، مقدّمةً تجربةً أدبيةً غنيةً ومتعدّدةَ الطبقاتِ. غير أنّ هيكلَها غيرُ التقليديِّ قد يجعلُها صعبةَ الفهمِ لدى بعضِ القرّاءِ.ك.
ورغم قلةِ الحوارِ وسيطرةِ التأمّلِ، فإنّ عمقَها النفسيَّ ورمزيتَها القويةَ يمنحانِها بُعدًا فنيًّا متميّزًا، يجعلُها عملًا يستحقُّ القراءةَ لمن يبحثُ عن تجربةٍ أدبيةٍ غيرِ مألوفةٍ، تتجاوزُ السردَ المعتادَ إلى استكشافِ الحالةِ الإنسانيةِ بلغةٍ شاعريةٍ مكثّفةٍ.
هذا، واللهُ المُوفق.