[النقد والإبداع 1]: لنتخيل: المبدع

محمد الحميدي

لنتخيل.. لنتخيل للحظات، كيف سيكون شكل العالم الحالي، لو اختفت جميع الفنون والآداب؟

لا أظن أحدا قادرا على تخيل الكارثة المأساوية التي ستحل بالبشرية، حيث سيتحول البشر إلى آلات تؤدي وظائف محددة وتنتهي منها وتذهب كي تنام ولا يشغل بالها شيء، إنها الفنون والآداب التي تعطي البشر معنى لحياتهم ووجودهم وأملا لمستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة، ولعل هذه هي مهمة المبدع.

إن المبدع ليس شيئا هامشيا في حياتنا، فله مكانة عالية وإن لم نشعر بها أو لم نكتشفها والسبب بسيط جدا في ذلك فنحن لا نرى إلا بعين واحدة وهي العين التي ترى الغريب والبعيد وذلك المختلف أما العين الأخرى التي ترى القريب والمألوف فمغمضة تماما ولا نجرؤ على فتحها، وأظن أننا اليوم في بيئتنا نحتاج إلى فتح العين الثانية من أجل اكتشاف الإبداع على مصراعيه… فأين يكمن الإبداع في بيئتنا؟

سؤال مشروع بل ملح في زمان بات الاختلاف هو ما يحدد هويتنا وكينونتنا، فنحن لا ننظر إلى البعيد إلا لكي نكتشف أنفسنا، ولا نقارن أنفسنا بالغرب والشرق إلا لندرك مدى تمايزنا عنهم وكيف أنهم يصعدون السلم ونحن نهبط، فهل هي الحقيقة أننا نهبط السلم؟

سيكون الجواب بالتأكيد كلا، وثمة لكن بعد هذه الكلا؛ حيث السلم الذي نتحدث عنه ليس أكثر من العين العوراء والشوهاء أو العين المغمضة التي تحدثنا عنها وأنها تشاهد الداخل، فهي لا ترى شيئا، وإذا رأت شيئا ستبادر إلى إلصاق العيوب فيه.

لم تصل شعوب الشرق والغرب إلى ما وصلت إليه إلا بدعم مبدعيها والأخذ بأيديهم ولم تكن الأمم الماضية لتُخلَّد آثارُها إلا على يد هؤلاء، هي سنة كونية يسير عليها الإنسان، فالأدب والفن وكل ما يتصل بالإبداع والموهبة هو السبب في خلود الأمم، وهو كذلك السبب في بقائها إلى اليوم، حية ومشاهدة أمامنا.

أمام المبدع مهمة في غاية العسر تتمثل في الحفاظ على تراث الأمة التي ينتمي إليها ومن ثم الانطلاق لتشكيل العالم من جديد بحسب ما يراه، فالإبداع لا يعني السكون والبقاء على النمطية، كلا، بل يعني التجاوز وإنشاء الجديد، ويمكننا أن نلاحظ ذلك في الأمم السابقة والحالية على حد سواء، فاليونان اشتهرت ملاحمهم والرومان مسارحهم والعرب بلاغتهم وحكمتهم والفراعنة منحوتاتهم الدقيقة وتصاميمهم المدهشة للأهرام والغرب الأوروبي تميز بالموسيقي خاصة، مع مشاركتهم للسابقين في النحت والرسم.

الإبداع هو محاولة الإتيان بالجديد وعدم الركون إلى المتوارث المألوف وهذا ما نجح فيه بعض المبدعين وأخفق آخرون، فالبعض نجح في الشعر وأجاد والبعض في المسرح والبعض في الرواية والبعض في الموسيقى والبعض في الرسم، وتطول القائمة لو حاولنا سرد جميع الفنون والآداب، ولكننا هنا نبحث عن المشترك بينها جميعها، فما هو الشيء الجامع بين النحت والشعر والقصة والمسرح والتمثيل ووو، لا شك أن المشترك بينها جميعها هو الصورة.

نعم الصورة، وهنا نعود إلى العين المفتوحة والعين المغمضة؛ لنكمل فكرتنا التي طرحناها، الصورة التي أشير إليها هي كيفية نظرتنا إلى أنفسنا وإلى العالم من حولنا، فالمبدع ليس آلة اختفت المشاعر من داخلها، بل هو جيش من المشاعر وطوفان من الأحاسيس وعالم مختلف من الخيال، لا يستطيع الفرد العادي الاقتراب منه وإلا انفجر في وجهه على هيئة قصيدة أو قطعة موسيقية أو مسرحية أو منحوتة، نعم هذه هي حقيقة الإبداع، أن يكون الفرد من الداخل ممتلئا في قبال خواء العالم وأزماته، ولولا هذه الأزمات التي يراها لم يستطع ممارسة إبداعه في محاولة لتغيير العالم إلى الأفضل.

ورقة قدّمها الكاتب في جلسة حوارية حول “النقد والإبداع” لملتقى سدرة الثقافي.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×