[مقال] أثير السادة: ما بين تدويخ الناس وتدويخ الدجاج
أثير السادة
أكثر من مليوني حاج يقصدون مكة ومن المرجح أن يتناولوا الدجاج البرازيلي..بهذه العبارة تفتح مجلة نيوزك ويك الشهيرة تقريرا نشر في مثل هذا الوقت من العام الماضي عن صادرات الدجاج البرازيلي إلى السعودية، وفيه تعرض للاشكالات التي برزت على السطح فيما يخص جودة هذا الدجاج المستورد.
هذه الإشارة تذكرنا بحصة الدجاج البرازيلي من السوق العالمية، باعتبارها واحدة من أكبر المصدرين، كما تذكرنا بموقع السعودية كمستهلك كبير لهذا الدجاج وفق الاحصائيات المتداولة، حيث لا يتجاوز المنتج المحلي من الدجاج ٤٤٪ من مجموع الاستهلاك، وتغطي البرازيل لوحدها ما يعادل ٨٥٪ من الحصة المتبقية، وبالأرقام، تستهلك السعودية في كل عام ما يعادل مليونا ونصف المليون طن من الدجاج، وتستورد ما يقارب ٩٠٠ ألف طن لتلبية الطلب المحلي، فالدجاج الذي لا يصلح للضيوف في العرف المحلي هو الأول على مستوى استهلاك اللحوم، والمفضل لدى المواطن السعودي.
البلد الذي تستقبل المسالخ فيه يوميا أكثر من ١٥ مليون دجاجة، مازال يطمع في المزيد من الحصص في السوق العالمية، كما يطمع في معالجة الكثير من القضايا القانونية والعمالية والصحية والبيئية، وفي ضمنها ضوابط الذبح الحلال، والتي تمثل خط انتاج خاص ذي كثافة عمالية لما يستوجبه من خطوات إضافية بحسب الفتاوى الشرعية، وهذا ما يضعها أمام كلفة اقتصادية ستبحث عن عوض لها، إما عبر توجيه التكلفة للمستهلك أو إيجاد حلول تقنية.
هي سوق مغرية لكنها بالغة الحساسية، هكذا تبدو سوق الحلال بالنسبة للمشاركين فيها، لأن الالتزام بالضوابط الشرعية في حد ذاته سيطل بين وقت وآخر على صيغة شكوك واعتراضات، فضلا عن ما يطفو على السطح بين وقت وآخر من سجالات فقهية واختلاقات في تقويم بعض خطوات الذبح، كالاختلاف حول تدويخ الدجاج بالصعق الكهربائي، والذبح بالمكائن الكهربائية، والتسمية عبر المسجلات الصوتية، إضافة إلى التباين بين الشيعة والسنة في مسألة وجوب استقبال القبلة في حال الذبح، ما بين اعتباره سنة عند أهل السنة واعتباره واجبا عند الشيعة.
لذلك يقف الناس هنا، وأبناء المنطقة على وجه التحديد، موقف المشكك والنافر من كل الدجاج القادم من هناك، التزاما بفتاوى شرعية بدأت تتماشى مع تصاعد الشكوك والظنون في سلامة الذبح، والتوجيه ناحية البحث عن الاطمئنان وما يوجبه في هذه المسائل..ولأن الفقيه ينظر في فتواه للمشكلة في حدودها الضيقة، كحادثة فردية، تستمر القطيعة بين الدجاج المستورد وبين الإنسان الملتزم، والذي يتعذر عليه احراز الاطمئنان بحسب الفتوى، ما يجعله في حراج مستمر كلما قصد مطعما هنا ومطعما هناك، طالما تشاغل في إثبات التذكية وإثبات مصدر اللحوم، لأنه ليس بالإمكان أن نحمل الناس إلى داخل مطابخ المطاعم، ومستودعاتها، ليروا بأنفسهم مصادر اللحوم، سواء أفصح صاحب المطعم أم لم يفصح.
هذا القلق الذي دفع بعض الأفراد لفتح حسابات خاصة للتحقق من مصادر اللحوم في المطاعم، لا أظنه سينتهي عند هذا الحد، فحتى حساب “طمني” الذي سيتلون بألوان التسويق الخفي، سيحمل الناس على المزيد من الوسوسة في شأن ما يأكلون في مطاعم المنطقة، ولن ينجح إلا في المزيد من عمليات الفرز للمطاعم وتضييق خيارات الناس.
المشكلة التي لا تلتف إليها الفتاوى المتكررة، هي أننا أمام مسألة اقتصادية بالدرجة الأولى، تتعلق بتوفير الغذاء للمجتمع، وليست مسائل محل ابتلاء لأفراد متفرقين، أي أن الجهد ينبغي أن يذهب باتجاه صياغة رؤية تضمن للناس حصتهم من هذه اللحوم في أي بلد كانوا، وتدفع ناحية تجسير المسافة بين المشرع وبين الجهات المنتجة للدجاج في البرازيل وسواها.
الذهاب بالشك بعيدا في مسائل التذكية، يجعل من الاطمئنان مستحيلا في المذبوح محليا والمذبوح خارجيا، فكما لا نعلم صفة الذبح ولا نطمئن لصورة الذابح هناك في البرازيل، نحن لا نعلم كذلك التزام المشاركين في التذكية في المحلات هنا، هذه العمالة المتعبة والرخيصة، والتي قد لا تنال معاشاتها في موعدها، لا أحد يملك الجزم بأنها تحرص على التسمية والتوجه باتجاه القبلة عند كل عملية ذبح، سهوا أو عمدا، لا فرق، أي أن مجرد الدخول في دوامة الوسوسة سيأخذنا إلى قلق بلا نهاية.
تعزيز الثقة وبناء الجسور مع هذه المصانع هو الحل الأمثل لرفع الحرج عن الناس، عبر تشكيل جمعيات ومراكز بحثية ورقابية، وإعمال الاجتهاد مجددا في الحكم الفقهي لاستعياب الحاجات المستجدة، والاقتصاديات الكلية والجزئية على السواء، خاصة وأن الاقتصاد العالمي ذهب ومازال يذهب بسرعة البرق باتجاه المكننة في كل شيء، فارضاً واقعاً اقتصاديا جديدا، وشروطا انتاجية مختلفة عن اقتصاديات الحارة والقرية.
وبس