[مقال] د. ريان المصلي: الغذاء الروحي: عاشوراء انموذجاً
الدكتور ريان المصلي
الكل يعرف أهمية التغذية لبناء الجسم بصورة صحيحة خالية من الأمراض والمشاكل الصحية. وكما هو معروف فإن كثيراً من الأمراض ناتجة عن سوء التغذية. لهذا يعتني الجميع بالتغذية الصحية.
والنوع الثاني من التغذية هو غذاء العقل الذي يُحصّل بالتعلم ومختلف وسائل الاطلاع، من المقروء والمرئي والمسموع. وذلك لبناء الحضارات والتطور على كل الأصعدة. وقد يحصل الغذاء العقلي من خلال الدراسة الأكاديمية أو حتى الدراسة الغير منتظمة.
ما أردت التحدث عنه هنا هو نوع آخر من التغذية؛ ألا وهو غذاء الروح. وهو غذاء تحتاجه النفس، وإذا لم يحصّل تمرض بمشاكل التوتر والاكتئاب، وهي مشاكل راح ضحيتها الكثيرون انتهى ببعضهم المطاف إلى الموت بالانتحار، لعدم الصبر على تحمل الألم النفسي.
أرى كثيراً من الناس يصابون بالهلع والخوف المبالغ حين يخبرون عن إصابتهم بمرض ما، وآخرين يظهر على ردة فعلهم الاطمئنان والسكينة وتقبُّل الأمر والتسليم المطلق لله سبحانه وتعالى.
أحد المصابين بالسرطان سُئل قبل إعلامه بنتيجة الفحص النهائية كمدخل لإخباره بها. كان السؤال: ما تتوقع لديك؟ قال: إما خبيث أو حميد والحمد لله على كل حال فالشفاء بأمره. قالها وهو متبسم، ما جعلني ألاحظ الفارق الكبير بين ردات الأفعال.
لاحظت بعد معرفة الخلفية الدينية لبعض المرضى الذين أشرفت على علاجهم أن الملتزمين دينياً ـ مسلمين ومسيحين ويهوداً خاصةً ـ يكونون مطمئنين بفضل الجانب الروحي الغني لديهم. خلافاً للادينين حيث يظهر على بعضهم الانهيار بعد سماع خبر كمرض خطير.
بطبيعة الأمر هذه ملاحظتي الشخصية ولا أستطيع تعميمها.
على كل حال المتتبع يجد بعض العبارات المطمئنة الموجودة في الكتب السماوية.“There is going to be a resurrection” سيكون هناك نشور (١) ، “Freedom from a morbid fear of death” التحرر من خوف الموت (٢).
هذا النوع من التغذية لدينا كمسلمين يحصّل بالعبادة والخشوع إلى الله سبحانه، والقيام بما يرضيه من الدعاء والنوافل وصلاة الجمعة والجماعة ومساعدة الناس وإحياء الشعائر وغيرها من الأعمال الحسنة، {ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (٣).
ومن ذهب إلى الحج يعلم بالحالة الروحية التي يصل إليها الحجاج، وبالذات أثناء وقوف يوم عرفة، وكذلك في أشهر العبادات رجب وشعبان ورمضان، وأثناء الصلاة والدعاء وغيرها من العبادات.
ومن يخلص في عبادته إلى الله جل وعلا يتقرب منه أكثر فأكثر ويصل إلى درجة عالية من النورانية التي يشعر فيها بالرضا الذاتي والمعنوي. ولهذه المرتبة آثار تنعكس بالصبر على صعوبات الحياة والتعثرات التي يمر بها الإنسان.
الموسم العاشورائي غني بالمعرفة كغذاء للعقل، فهناك المئات من المحاضرات التي تلقى في اليوم الواحد في القطيف فقط، وهي تعالج جوانب اجتماعية، عقَدية، نفسية، عائلية تربوية، وأخلاقية من وحي سيرة النبي وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
كما هو غني بالغذاء الروحي من خلال البكاء على الحسين ـ عليه السلام ـ الذي خرج لله واستشهد في سبيله، وكان بحق مخلداً من الله سبحانه وتعالى.
كما يقال إن الحسين عليه السلام عِبرة وعَبرة. هناك ـ يا للأسف ـ من لا يعيش حالة البكاء والخضوع والخشوع في حياته، فتراه يعيش حياةً جافةً خالية من الجنبة الروحية.
الأجواء العبادية الروحية في الموسم العاشورائي لها دور مهم في صلاح الكثيرين، حيث ساعدتهم على التخلص من عادات سيئة وعودتهم العمل الإجتماعي التكافلي.
الثورة الحسينية ملهمة للمسلمين وغيرهم، والطاقة الروحية المستفادة منها لها أثر في الذكاء العاطفي “emotional intelligence” لدى الإنسان وما لذلك من دور في توجيه اتخاذ القرارات لديه.
أحد الأمريكيين الذين تعرفت إليهم يتحدث أنه بعد المرحلة الثانوية كان حائراً إلى أي تخصص يسير وأبواب الجامعات الأمريكية كلها مفتوحة له. لكنه بتأثره بقضية الإمام الحسين ـ عليه السلام اختار ـ الاختصاص في مجال الدين الذي يعد أطول من باقي التخصصات حيث مرحلة المقدمة الدينة تصل إلى ٩ سنوات.
الثورة الحسينية تبدأ من النفس لإصلاحها حتى يصلح المجتمع والأمة.
رُوي عن الإمام الحسين بن علي ـ عليه السلام ـ أنه قال “إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر” (٤).
كما أن الحسين عليه السلام باستشهاده أبقى الإسلام حياً، علينا بإبقاء واقعة الطف حيةً لنسلتلهم منها الفوائد والعبر كي تبقي قلوبنا حيةً متوجهةً إلى الله تعالى.
١) الكتب المقدسة، The holy scriptures, Acts 24:15
٢)الكتب المقدسة، The holy scriptures, Hebrew 2:15
٣) القرآن الكريم، سورة الحج، آية ٣٢
٤) بحار الأنوار للعلامة المجلسي، ج ٤٤، ص ٣٢٩