“صُبرة” تنشر نص ورقة الأستاذ محمد العلي: الاغتراب قدّمها في جمعية الثقافة والفنون بالدمام.. مساء الأحد 3 نوفمبر
الاغتراب
مفردة الاغتراب ذات معنى قديم في ثقافتنا؛ فمنذ العصر الجاهلي كان سلوك الفرد، حين يصبح معارضا لسلوك قبيلته يفرد (إفراد البعير المعبد) ومن هنا نشأت ظاهرة الصعاليك، وهم لفيف من أفراد خلعتهم قبائلهم؛ أي تبرأت منهم، فأصبح مأواهم مأوى الرياح:
وسائلة أين الرحيل؟ وسائل
وهل يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟
إنه تائه، ألف الوحوش، وألفته، كما يدعي بعضهم. وقد قيلت في ذلك أشعار مشهورة كثيرة لا داعي لذكرها.
استمرت ظاهرة الصعلكة طيلة العصر الإسلامي والأموي، وفي العصر العباسي تغير معنى الاغتراب إلى عزلة إرادية عن الناس.
كان السبب لظاهرة الصعاليك واضحا، إنه الفقر المجدب، والشعور الحارق بعدم المساواة؛ لذلك سلك لفيفهم طريق سلب الأغنياء، وتوزيع ذلك على المحتاجين. وقد حورب هذا السلوك؛ لأنه سلوك يقوم به أفراد من قبائل مختلفة. والمفارقة المضحكة أن العمل نفسه، لو قام به أفراد من قبيلة واحدة لعد عملا سائغا وشجاعا.
وقد استمرت ظاهرة الصعلكة طيلة العصر الإسلامي والأموي، حتى أن الأحيمر السعدي الذي يعتبر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية هو القائل:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
في العصر العباسي تغير معنى الاغتراب من العزلة ألا إرادية، كما هي في العصر الجاهلي، إلى عزلة إرادية عن الناس. وهنا لا بد أن نسأل عن السبب لهذا التغير؛ فقد كان الفقر هو السبب لظاهرة الصعلكة، أما هنا؛ فإن السبب هو الغنى الفاحش في يد من لا يستحقه. وقد عبر عن ذلك ابن الرومي بحرقة ضارية:
أترانـــي دون الأُلـــى بلغوا الآ
مال مــن شرطــــة ومــن كتّـــابِ
وتجارِ مـــــثلِ البهــائم فازوا
بالمنى في النفـــوس والأحبـــــابِ
ويظلّون في المناعــــــم واللـــذ
ات بيــن الكواعـــــب الأتــــرابِ
لهف نفسي على مناكــــير للنــ
ـــكر غضاب ذوي سيوف عضابِ
تغسل الأرضَ بالدماء فتضـــحي
ذات طهــر ترابــها كالمــلابِ
من كلاب نــــأى بهــــا كلَّ نأي
عن وفـاء الكـلاب غدر الذئابِ
أصبحوا ذهلين عن شجن الناس
وإن كان حبلهم في اضطراب
هذه الأبيات لابن الرومي، لا شكوى فيها من الفقر، بل من الفساد السياسي الذي أصبح أهله ذاهلين عن شجن الناس وآلامهم، فى حين كان حبلهم قصيرا؛ لأن الدولة كانت تتمزق، وهم ذاهلون.
هذا الشعور الحارق، عبر عنه شعراء ذلك العصر بصور مختلفة؛ لأنهم يتميزون عن غيرهم بمستواهم الثقافي الشاهق، ومع ذلك فهم يحتاجون؛ لضرورات الحياة، إلى من هم دونهم، بمراحل، من الحكام الفاسدين وأذنابهم، بفعل (الزمان المغفل) وكان أبعد الشعراء غورا في التعبير عن هذا الشعور الممض هو أبو تمام حين قال:
وأصرف وجهي عن بلاد أرى بها
لساني معقولا وقلبيَ مقفلا
وجد بها قوم سواي فصادفوا
بها الصنع أعشى والزمان مغفلا
أما المتنبي فكان يتمزق نفسيا؛ لأنه لا يرى في الدولة إلا أبواقا وطبولا
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
وكان يقصد الخلفاء العباسيين في عصر انهيار الدولة.
وإذن فقد كان اختلال الموازين السياسية والاجتماعية هو السبب لتلك العزلة وذاك التذمر.
أصاب الغذّامي في إدانة الشعراء.. ولكن من زاوية واحدة فقط.. المثالية المنفصلة عن الواقع
الناقد الكبير الدكتور عبد الله الغذامي أدان شعراء ذلك العصر، ومن قبلهم، ومن بعدهم، حتى أدونيس ونزار.. لأنهم شوهوا الذات العربية، بإحالتها إلى ذات مشعرنة؛ لتمجيدهم الطغيان، فحمل شعرهم نسقا خفيا مدمرا للذات.
هذا الرأي نراه صائبا من زاوية واحدة، هي الزاوية الأخلاقية المثالية المنفصلة عن الواقع، وعن فعل التاريخ، فقد أعاد المفكر الجابري تمجيد الطغيان إلى تأثير الثقافة الفارسية التي حملت إلى العربية مقولة (السمع والطاعة) .
وقد جادل الناقد العراقي عبد الله إبراهيم هذا الرأي بصورة موضوعية عميقة لا مزيد عليها. (فصول ع 63) في العصر الحديث تعدد معنى الاغتراب تبعا لتعدد أسبابه: فهناك اغتراب نفسي، وثقافي، واجتماعي، وسياسي، وإيجابي، وسلبي.. وهذا التعدد ليس معناه عدم وجودها في العصور السابقة، بل لأن التعدد وأسبابه لم تكتشف إلا في الأزمنة المتأخرة.
وهو على نوعين: اغترب إيجابي، وهو التحول المعرفي، ونضج الوعي، اللذان يرتفع بهما الإنسان على نفسه، من خلال تجاربه، وتقلبه في وجوه التفاعل الاجتماعي، ودرجات التعلم. واغتراب سلبي، وهو (الشعور بالوحدة حتى بين الأهل والأصدقاء. إنه انفصال الفرد عن التفاعل الاجتماعي، والانفعال بالمؤثرات، وبالتالي الشعور بلا جدوى الحياة) أي تحوله إلى مرض. وهذا يعود إلى أسباب فرعية مختلفة.
2ــ الاغتراب الثقافي:
لكل مجتمع حضاري ثقافتان: ثقافة سائدة، تعززها السلطة الاجتماعية والسياسية، هدفها إبقاء الو ضع الاجتماعي كما هو بلا تغيير، وثقافة مضادة هدفها التغيير الجذري الشامل لكل أوضاع المجتمع المتخلفة. ولنضرب ـ مثلا ـ بالتعليم. فقد كتب كثيراً عن تخلف المناهج التعليمية، وأنها حشو للذاكرة؛ لا لتنمية الوعي وإيقاظ الفكر..
وفى لفتة ماهرة للكاتب القديرعلي الشدوي أضاف فيها إلى ما ذكر أن تلك المناهج تسبب اغتراب الطالب عن نفسه؛ لأنها لا علاقة لها بالحياة الاجتماعية التي يعيشها، ولا بأي هدف من أهدافه.
إن الصراع بين الثقافتين السائدة والمضادة، هو في جذره صراع اجتماعي، يهدف إلى التغيير، ويصل ـ أحيانا ـ إلى التناحر؛ لذا فإن جميع من حاولوا التغيير من الفلاسفة، والمفكرين والمصلحين، وحتى الشعراء والأدباء قد اكتووا بنار ذلك الصراع، وذاقوا مرارة الاغتراب، ولكن النتيجة تكون دائما إيجابية؛ لأنها تثمر التقدم والتطور.
3ــ الاغتراب الفلسفي:
لا أريد هنا الخوض في نظرية الاغتراب عند باخ أو ماركس أو غيرهما من الاجتماعيين والنفسيين، بل كل ما أريده هو إيضاح اغتراب ما ندعوه فلسفتنا عن ثقافتنا السائدة والمضادة معا، على كثرة من نسميهم فلاسفتنا، فابتداء من الكندي حتى ابن رشد نقرأ شتاتا من الآراء المنقولة بصورة غير دقيقة، فلم تترك أي تأثير في ثقافة المجتمع، كما ترك المعتزلة، على قصر فترة ظهورهم. وقد أعاد العلامة عبد الرحمن بدوي سبب ذلك إلى فصل الذات العربية عن استقلالها، ودمجها بالجماعة. وهو رأي صائب، حين ننظر من زاوية تاريخية.
وقد يكون للحديث القائل (يد الله مع الجماعة) دخل في هذا، ولكني رأيت في أحد المواقع الدينية أن معنى الجماعة المقصود هنا هم الصحابة. وعليه فإن الحديث خاص بزمن مضى وليس عاما.
4ــ الاغتراب السياسي:
وهو غياب المشاركة في الفعل السياسي، مع القدرة عليه، الأمر الذي يفضي إلى السلبية وعدم المبالاة، وهذا موقف يؤدي، في النهاية إلى ضعف الأمة وانهيارها.
5ــ الاغتراب الديني:
أصرح هنا، منذ البداية، بأني مجرد ناقل، لا لرأي (باخ) في الاغتراب الديني، بل لرأي كاتب إسلامي هو الدكتور توفيق السيف، المستند بدوره إلى مفكر إسلامي آخر هو الدكتور عبد الكريم سروش فقد كتب في جريدة الشرق الأوسط تحت عنوان (العلمانية الطبيعية: استقلال العلوم) في (ا3 / 7 / 9 1 0 2) ما يلي:
(الذي حدث بعد استقلال العلوم أن البشر حصلوا على أدوات تفسير لعالمهم من خارج إطار الدين، أو لعل علاقتهم بهذا العالم قد تطورت من حالة الانفعال، وانتظار الأمر والنهي، إلى التأمل والبحث عن تفسيرات لما يجري فيه، أي ازدادت مساحة التساؤل، وتقلصت مساحة اليقين، وتغير موقف الإنسان من الانصياع إلى الرغبة في الاستقلال.
يبدو أن هذا هو الموقف الطبيعي، أو ما نسميه منطق التاريخ. في البداية يوفر الدين مفاتيح لفهم العالم، لعل أبرزها الإيمان ـ الميتافيزيقي أولا، التجريبي تاليا ـ بأن الكون نظام دقيق (…) وبعد أن يتعرف الإنسان، تتقلص وظيفة الدين إلى أخص اهتماماته، أي الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى وربط الإنسان بخالقه.)
ثم يختتم النص بقوله: (يعتقد سروش أن هذا المسار يؤدي إلى ما نسميه: (علمانية) ينطلق سروش من الاعتقاد بأن الدين ثابت، أما معرفة الدين فهي متغيرة كسائر المعارف البشرية التي إذا تغير فرع منها أثر في الفروع الأخرى.
وهذا الاعتقاد قديم: يستند القائلون به إلى الحديث (إن ألله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها. وعلى هذا قال جلال الدين السيوطي:
لقد أتى في خبر مشتهر
رواه كل حافظ معتبر
بأنه في رأس كل مئة
يبعث ربنا لهذي الأمة
منا عليها عالما يجدد
دين الهدى لأنه مجتهد
فكان عند المئة الأولى عمر
خليفة العدل بإجماع وقر
والشافعي كان عند الثانية
لما له من العلوم السامية
والخامس الحبر هو الغزالي
وعده ما فيه من جدال.
في الختام، واختصارا لما تقدم كله، ينبغي أن نسأل: ما هو السبب لهذا الصراع والتمرد في كل هذه العصور المترامية؟ والإجابة نجدها في قضيتين هما: غياب العدالة الاجتماعية، وغياب الحرية. لقد تكسرت الأقلام (زرافات ووحدانا) وهي تكتب عن ضرورة العدالة الاجتماعية، من دون رؤيتها على أرض الواقع المعاش، إذ لو كانت هناك عدالة في توزيع الخيرات؛ لاتجهت تلك الصراعات إلى ميدان التنافس في البناء الاجتماعي، بعيدا عن التناحر.
وقد عبر الشاعر الكبير الجواهري عن التفاوت المقيت بين الناس، وغياب العدالة بقوله:
لكن بي جنفاً عن وعي فلسفة
تقضي بأن البرايا رُتّبت رتبا
وأن من حكمةٍ أن يجتني الرطبا
فرد بجهد ألوف تعلك الكربا
أما غياب الحرية، التي كأن بينها وبين الأرض العربية نفورا أزليا، فهو الآخر سبب الانكسارات التي نتخبط فيها.
لقد رادف الفيلسوف سارتر بين الإنسان وبين الحرية؛ لأن الإنسان لا يصير ذاتا إلا بالحرية، وبدونها يصبح مجرد موجود كأي (شيء) من الأشاء، ومعنى هذا أنه لم يتحول بعد إلى إنسان. إننا في عالمنا نتكلم عن الحرية، وكأنها شبح من الأشباح، أو حلم من أحلام شهرزاد؛ لذا لو نظر إلينا سارتر لقال: هؤلاء (موتى بلا قبور) ولأضرب مثلا: جاء في حقوق الإنسان: أن حرية الرأي حق من حقوق الإنسان. فهل يا ترى لو أنت بدلت مذهبك فهل أنظر إليك أنا، الذي أدعي التنوير، بدون أن تحمر عيناي من الغضب؟ بل هل تستطيع أنت الآن أن تكتب مثل المعري أو أبي حيان أو أبي نؤاس؟ كلا إنك لا تستطيع؛ لأن حراس الموتى جاهزون لك بكل الأسلحة.
محمد العلي 24/1/1441هـ
صور