[كتابة] محمد الحميدي: نشيشُ العَدم!
محمد الحميدي
أ كُلَّما انتبهتُ؟ وجدتُني أسيرُ ناحيةَ الهاوية، تلك النهايةُ الأبديَّة، وما من أحدٍ يستطيعُ انتشالَ العدم، أ تُراها امتلأتِ الآنَ، بجثثِ المصلوبين من الشعراء؟ أم تحتفي بهم، كما يفعلُ الآدميون! لا شأنَ لي، وحيدٌ أنا، والعزلةُ تملأُ رئتي بالنشيش، وآبائي يتساقطونَ، واحداً واحداً، وعليَّ الفِرار.
ليلةٌ واحدةٌ، تفصلني عن جهنَّم، الحيُّ / الميتُ، كلاهما يسكنان الأعماق، لا كَلمة أو نأْمة، سكتاتٌ مطلقةٌ، واللسانُ انقطعَ هريرهُ، ومِقصلة الحاصد تدورُ رَحاها، ثمةَ ما يجوسُ الشوارعَ، ثمةَ ما يُقيم مأدُبةً للوحوش، ثمةَ ما يختزلُ الحياة في ذاكرةٍ مغلقة، ذلك أناي!!
لو أردتُ إفلاتني؛ ما استطعتُ، الحياةُ قوةٌ غاشمة، لا تنيرُ لي الطريق، والعتمةُ شبحٌ مغامر، يخترق أوصالي، أ كُلَّما هاجمني، ورددتُ هجوماتهِ، راودتني نفسي؛ لأسقطَ من علياءَ؟ لن أتأمَّل الماضي، وأبكي أطلالهُ، أمامي مأساةٌ أصلحُها، وأمَّةٌ تنتظر الخلاص، وأنا وحدي، القادرُ على التَّنفُس.
أقتربُ أكثرَ، الشاطئُ مكتظٌ، والحياةُ رائعة، بين الحوريات. ورائي؛ ألفُ مِقصلة شيطانية، والعدمُ؛ يَنهبُ الخطوات نهباً، ولا مفرَّ من البحر، هناك، تلتقي السماوات، والأرض، هناك، أغرقُ بين الوجود، ولا وجود، هناك، أخرجُ من عباءتي؛ لألبسَ عباءةَ العتمة، ثم أختفي، قبل الفجر.
انسربتُ كسمكةٍ لولبية، تعرفُ البحر؛ متى يمتدُّ موجه، ويغتالُ صرخات الشواطئ! وحدي، بلا أملٍ يرافقني، أسيرُ إلى المجهول، وراحلتي؛ رِجلاي الداميتان. تفاحةُ آدمَ، أقضِمها ببطءٍ رهيب، لذةٌ لا تُوصف، حين أفتتحُ فمي، وألتهمها، لكنني ببؤس! لا أصلُ حد نهاياتها.
تفاحةٌ غامضة، أهدتنيها حوريةٌ، ساعةَ خلاصٍ. ذاتَ ظُلمة دامسةٍ، أغرقتُها، وذاتَ الظُّلمة، أغرقتني، لم أعد أعرفُني، داخلَ الماء الضَّحل، شددتُها، وأرخيتُ زعانفها، ثم تركتها للشاطئ؛ كي تتوب من البحر، هو البحر نفسُه، الذي عاندني، وأنقذها، أعادَ لها الحياة.
الحياةُ خُلاصة الأشياء، تنطفئُ الفوانيسُ، في الأعياد، إلا القمرَ، يظلُّ مشتعلاً، طوالَ عامٍ كامل، لا يسأمُ من عمله الخالد. لماذا يسير الظلُّ، بينما الجسد، لا يتحرَّك! أتعجب، وأنبهرُ، الظلُّ كائنٌ آخرُ، مشوهٌ، ينعكسُ عن جسدي، ولا أدركُ حقيقتهُ، أحسُّ به، ولا أمسكهُ، أتمنى لو يرحلُ، بعضَ وقت، لأنالَ حُريتي، وأهربُ!
ها أنا، أحالُ إلى عدمٍ مُطلق، ثمةَ وجودٌ آخرُ، لا أفهمهُ، لستُ أكثرَ من آلةٍ، تعشقُ العمل، وكسرَ الروتين المملِّ، متناقِضان حدَّ الدهشة، أنا وذاتي؛ أناي صخرةٌ عالقةٌ؛ كحفرة، وذاتي انفلاتٌ لا يوصفُ، وبينهما هذا الجسدُ، واقفاً، خلفَ عتمةٍ، ينتظرُ، ولا شيءَ في الأُفق.
القراراتُ بيدنا، بيدَ أنَّها، ليست لنا، يُجبرنا العدمُ؛ فنحملها، أعلى ظُهورنا، ثم نتجهُ ناحية البحر؛ حيثُ الأسماكُ الغائصة، تنهشُ بقايا ذاكرتنا المواربة، أهربُ، أستنجدُ بذاتي، لا تستجيبُ، الأمَرُّ؛ تُقهقهُ بعنفٍ حاد، وتبتعدُ، داخل الضريح؛ الذي هو أنا.
أنصِبُ مأتماً، وأقيمُ العويلَ، ولا أحدَ يُشاركني العزاء، وحدي، أجوبُ العالم، ووحدي، أهربُ منه، رجلاي تخطَّان أثراً، فوق رملٍ مبلَّل، والثِّقل يبتلع قواي. اُسقطْ أيُّها الجسد، ولتنخر عِظامك؛ طحالبُ الأعماق، فغداً، يَرتبكُ الوجود، لِتعلم أنَّك حُزتَ؛ رُتبة العدم المطلق، اُسقط، ولا تبالي.
تنهشني الكآبةُ، وأفرُّ، المجهولُ أمامي، ورجلاي تغوصان أعمقَ، خطأٌ واحد، وأتدثَّر بالغيب. لن أسقطَ الآنَ، أو بعد حين، سأكملُ رحلة الموتى هذهِ، وأصلُ إلى حوريتي، التفاحةُ التي أقضمها، لا تشبه تفاحة آدمَ، لكنها تكفي لمعرفة الوجود.
صخرةٌ؛ كوتدٍ عِملاق، حفرةٌ لا نهاية لها، فلأصعدِ الصخرة، ولأهبطِ الحفرة، وأريحَ الجسدَ الناتئ، الغوصُ بجوار الطحالب، سَرقةٌ للوقتِ، وتمسُّكٌ بالأمل. ها أنت أيها الوقتُ، تختارُ أفراحنا، وأحزاننا، ونحنُ، لا شيءَ إزاءَ جَبروتك، كُن رحيماً، أطلق رقصتك المدوِّية، وانتشلنا.
أضعُني على الحافَّة، أمتدُّ، أرى الماء يعلو، ولا يصل نُباحهُ كاحلي، وترُ قيثارةٍ، يعزفُ لحناً، بداخلي، ثمةَ ضوضاءُ، أجنحةٌ تصطكُّ، وحوريةٌ، مُشربةٌ حُمرةً قانية، أراها الآنَ، بوضوحٍ تامٍّ، تُعانق قدميَّ، تمتدُّ كإلهةٍ، تلتهمُ أناي، وذاتي تغوصُ رويداً، وتختفي. معاً، نسقطُ إلى الهاوية، حفرةٌ لا قاع لها، ولا معنىً، عَدمٌ مُطلَقٌ، أبديٌّ. عليَّ الفرار.