[مقال] ياسر آل غريب: عندما يرمّم حسن مدن ذاكرته
ياسر آل غريب
يبدو أن كتابة السيرة الذاتية لاتحقق فاعليتها إلا إذا كانت تعبيرا عن مكابدة حياتية ومقرونة بالترحال من مكان إلى آخر، هذا ما وجدته عند الكاتب حسن مدن في كتابه (ترميم الذاكرة) الذي عبر عنها بما يشبه السيرة التي استعرض فيها تجربة حياته، ليس بنزعة الحنين إلى الماضي، ولكن بجرعة مكثفة من الوعي.
عندما كان مولعا بالقراءة في مقتبل عمره كانت نظرة أهله أن هذه الكتب ستصيبه بالجنون – وهذا يكشف عن ثقافة حقبة عاشها الخليج – والحقيقة أن تلك الكتب الأولى هي التي أمدته بوقود التجربة.
الذاكرة هي استعادة الفردوس كما تعبر الفيلسوفة البريطانية ميري ورنوك في كتابها (الذاكرة في الفلسفة والأدب) مبينة أنها الجسر الذي يفضي لاستمرارية الزمن، لكن أي فردوس هذا الذي يحن إليه حسن مدن؟، إنه الوطن..، وفكرة الكتاب مبنية على هذا الأساس؛ فلقد تغرب عن بلده البحرين، وخاض معترك الحياة متنقلا بين القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وموسكو والشارقة، كل مكان زرع في وجدانه أيقونته الخاصة حتى تشكلت معالم تجربته الثقافية.
إن إصلاح الذاكرة الذي قام به حسن مدن هو تجل من تجليات بناء الذات وتقديمها على شكل أنموذج إنساني كطير مهاجر منذ أن قال له معلم الفيزياء بمدرسة النعيم الثانوية إن شبكة العين ترتاح حين تحدق بعيدا، وماحدث في الواقع أنه حدق بعيدا برأيه والنتيجة كانت مجموعة من الأمكنة تنتظره.
عندما كان يكتب في الصحافة وهو في السابعة عشرة كانوا يظنون أنه أكبر عمرا وأضخم جسما. كانت موضوعات التعبير التي يكتبها تنال الإعجاب حتى كان أستاذه الأديب أحمد المناعي ينشرها في صحف البحرين. لكن الأعظم من هذه الموهبة الأدبية أن هذا الشاب سيفصل من المدرسة نهائيا بسبب انخراطه في تنظيمات مطلبية، حينها تبدأ مسيرة حياة المغرم بالأفكار التقدمية والنزعة اليسارية إلى أن تقذفه فوهة الزمن إلى فضاءات ومديات مختلفة.
إن هذه الغربة التي امتدت إلى أكثر من ٢٥ سنة وإن كانت مريرة ومصحوبة بتقلبات نفسية إلا أنها صنعت من حسن مدن مثقفا
– نفتخر بوجوده بيننا في الخليج – يقرأ التحولات قراءة فاحصة، ويختزل الأبعاد الحضارية لمفهوم الحرية. ولأنه يؤمن بمقولة الكلمة من أجل الإنسان فمن الطبيعي أن يعيش مع الناس لا عليهم.