نقطة ضوء
بلقيس السادة
عاشا معاً منذ الطفولة، إبنة خالته، كانا كأي طفلين يلعبان ويمرحان ويتعاركان معاً، وبحكم أنه ولد يكبرها بخمس سنوات، كان كثيراً ما يشاقيها ويزعجها، لكنه عشقها، وأحب غمازاتها التي تزين وجهها وتزيدها جمالاً..
زادتها سنوات عمرها جمالاً في الخُلق والخلقة، تعلق قلبه بها أكثر، طالما عبر عن مشاعره نحوها لوالدته، التي بدورها نقلت الأمر لوالدتها، علم الجميع بحب طارق لإبنة خالته هدى،
وعندها اِستشفت الأم رأيها في طارق، أحست بمبادلتها له المشاعر، تقدم لخطبتها بعد حصوله على عملٍ بعد تخرجه، عاشا فترة الخطوبة في وئام وتفاهم، بعد أشهرٍ زُفت اليه عروسة، اِمتلأت القاعة بالزغاريد والاِبتهالات.
مضت حياتهما في نعيم وعطاء، رُزقا بولد وبنت، لا يعكر صفو حياتهما شيء..
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن!! وسنة الله عز وجل في إمتحان خلقه، صعدتْ هدى إلى خالقها في حادثٍ مروري، وهي تقطع الشارع في رحلة ترفيهة كانوا معاً !!
انقلبت الموازين الفكرية والعقائدية عند طارق!!..
الأولاد عند جدتهم أم هدى، أخذ طارق إجازة مفتوحة من عمله، لم يستحمل أو يصدق برحيل حب حياته عن دربه، أخذ في اللوم والتقريع والسؤال، لمَ هدى؟؟ لمَ لمْ تُخيرني في الأمر؟؟، لمَ هذا الإمتحان الصعب؟؟ لماذا؟؟
وكيف، ولعل، ومن، ووو
لماذا تبقى علامات الإستفهام تقتل فينا بقايا الحياة!!!
ونتخذها نبراسا وكتيب سّنتذكره كل حين كأننا طلبة مدارس!!!
أصابته حالة من الإنكار، إنكار فقدها، إنكار شخصيته وهويته وإيمانه ووجوده، لذا انحرف عن عقيدة الحق، وأخذ بنشر عقيدة الضلالة، حاول والداهُ بالحكمة والموعظة ثنيهِ عن تفكيره جراء الصدمة، وأن عليه ترتيب حياته من جديد، و إعادة ترتيب أولوياتهُ، ليصبح غاية مراده رضا الله عنه في امتحانه بالصبر في الشدة، وامتحانه الشكر في الرخاء، حتى أم ولديهِ لا تقبل لهُ بأن يكون بهذه الصورة من الجحود والإنكار لله، وهي التي ارتحلت مؤمنة شاكرة عارفة بخالقها، لكنه كان في عالمٍ آخر استولى عليه الشيطان، ونسي خالقه، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
رجع عملهُ إنساناً آخرا، مكتئبا مهزوز المعالم والشخصية، يتكلم كثيراً، ويهرج بغير مناسبة، ويهمل العمل بدون تنفيذ، وينتقد هذا، ويذمُ ذاك!! وقد كان يشهد له زملائه في العمل بالجدية والإتزان والاحترام !!
“لكن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، حتى لو نسينا وعصينا وتطاولنا، يأخذ بأيدينا إلى بر الأمان بأي صورة يبعثها، حدث، إنسان، رسالة، لكن من يعي ذلك؟؟
اِتصل عليه رئيسه في العمل يوم الإجازة داعياً له بقبول دعوته في المنزل.
ذهب إليه متأنقاً، واستقبلهُ بحفاوة وترحيب، تم وضع سفرة الطعام على الطاولة، حضر ثلاثة شبان عرّفهم على إنهم أولاده، تفاجأ طارق من المشهد، لقد كانوا في حالة يرثى لها من الإصابة بمرض الداون !!
بعد العشاء ذهبا إلى غرفة المكتبة جلسا يتسامران وهما يشربان الشاي..
المدير: لقد رأيتَ الأولاد، وما أُبتليتُ به، رزقني الله ثلاثة صبيان وثلاث بنات، الأولاد بهذه الصورة، والبنات الحمدلله بصحة جيدة، لقد زادني هذا الأمر حمداً وصبراً، وكلما حمدته أعطاني رضاً وراحة، “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”، تزوجت البنات وأعطاني الله عوضاً عنهم أولاداً ليسوا من صلبي، لكن تعاملهم معي كأنهم أولادي وأكثر.
وأمّا غايته عز وجل من الابتلاء فهي اِمتحان صبر المؤمن، ومقدار توكله على الله تعالى، وإيمانه بقضاءِ الله تعالى وقدرهِ، وهذا يُنمي ثباتنا على الحق، وأن الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء، والمؤمن الكيس من اشترى آخرتهُ بدنياه وليس العكس، يا ولدي البيوت أسرار، وكل الخَلق مُبتلى ببلاءٍ يخصه، لامتحان الإيمان ودرجة الصبر لديهِ ومكافأتهُ على ذلك غداً، وتتنوع البلاءات والعطاءات حسب رؤية الخالق لذلك، وليس لنا من الاعتراض على شيء، حتى الغنى والثروة ابتلاء من نوع آخر ليرى قدرة الفرد في الإيثار للمحروم، أو استعمال المال في المحرمات التي نهى الله عنها، *كُلنا نقطة ضوء في هذا الكون الشاسع، نستطيع أن نجعله مُظلم أو مُضيء، عمران أو خراب، سلمٌ أو حرب، حبٌ أو حقد، شكرٌ أو نكران بخياراتنا*، ثم قرأ له قصاصة كان يحتفظ بها في درج مكتبه بصوتٍ رخيم : *رِزقُك مبسوطٌ للعاصين، حِلمُك مُتعرِّضٌ للمُذنبين، عادتُك الإحسانُ للمُسيئين، عفوك مسارعٌ للتائبين، رحمتك تَطالُ النّاس أجمعين، وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، إياكَ أعْبُد، وبك أرغَبُ، وفيك أطمعُ، ومنك أطلبُ، وإليك ألجأ، وعليك أتوكّل، وللقياك أشتاق يا ربَّ العالمين*، تحشرج صوته وسكت برهة، ثم أكمل ناظراً إياه : وأنتَ تعلمْ ذلكَ كله، ولستُ هنا في مجال نصيحة أو عِظة، بل اِستئناسٌ لك وتذكير كابنٍ لي، وكلنا بحاجة للتذكير.
شكره على استضافته وتذكيره، خرج ركبَ سيارته، لم يرَ أولاده منذ العزاء، مرَّ سته شهور على وفاة هدى لم يرهم فيها، اِتصل على حماتهِ، رحبت به، سأل عنهم، صعد إلى الطابق الثاني حيثُ كانوا نائمين كملائكة حضنهم وبكى، تساقطت دموعه على خديه، مسحها ونام بجوارهم بين السريرين على الأرض، فتحت أم هدى الباب رأته نائم، غطتهُ ووضعت وسادة تحت رأسه.
في الصباح بعد الإفطار كان معهم في رحلة ترفيهة.
تزوج أُخت هدى لرعايه أولاده وأقربها لهم، وعاش شاكراً مستغفراً حامداً لخالقهِ على عطائه ومننه “فَلَكَ الْحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ وَذي اَناة لا يَعْجَلُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاجْعَلْني لِنَعْمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ وَلآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ” .