الشيخ حسين المصطفى: ضرب الرقاب والأعناق!!
الشيخ حسين المصطفى
نقرأ -عادة- القرآن الكريم بتأثير المفسِّرين لكتاب الله، وحينئذ تخرج -بعد قرائتك- بأمور لا تتناسب مع شخصية الرسول الكريم (ص)، التي جاءت رحمة للناس، وبعثه الله رحمة للعالمين، وأنه جاء متممًا لمكارم الأخلاق.. وخاصة عندما نقرأ ما كتبه المفسِّرون في موضوع القتال والحرب في القرآن الكريم.
ونحن لا نستطيع أن نفهم “فقه الصلح” إلا إذا رجعنا إلى “فقه العنف” في الإسلام، من خلال ما طرحته الآيات القرآنية، وفيها نلاحظ أمرين:
أولاً: إنَّ العنوان الكبير الذي يُوضع في واجهة “فقه العنف“، هو ما يُسمى بعنوان (القتال).
ثانيًا: إذا أردنا أن ننفذ إلى داخل عنوان (القتال)، فإننا نجد أنَّ هناك آيات تحدد طريقة القتال:
- {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وهي مسألة دفاع عن النفس، أو عن المجتمع المستهدف.
- {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 75] وهذا القتال من أجل الفئات المحرومة أو المضطهدة.
- {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [البقرة: 193]، وهو -بحسب المصطلح الحديث- قتالٌ في سبيل الحرية؛ حتى لا يتحرك هؤلاء ليفتنوهم عن دينهم بالضغط والإكراه وبالقتل، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ}؛ حتى يأخذ الإسلام حريته .. إذاً ليس هناك في النص القرآني قتال بمعنى الهجوم.
- {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وهذا قتال وقائي؛ عندما تجد أنَّ هناك معطيات بأنّ قومًا سوف يهجمون عليك.
- {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61].. أي فاجنح للسلم بقوة، وذكرهم بقوتك؛ لكي لا تهضم حقًا من حقوق الأمة ولا حقوق البلاد.
- حتى عندما تريد أن ترد العدوان فعليك أن تردَّه بمثله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
ومن هنا، فإنَّ القتال في سبيل الله يقتضي أن يكون بمقاييس الله سبحانه وتعالى.. وجاء في العهد القديم: {قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ. وَمَاذَا يَطْلُبُ مِنْكَ يَهْوَهُ إِلَّا أَنْ تُمَارِسَ ٱلْعَدْلَ وَتُحِبَّ ٱللُّطْفَ وَتَسْلُكَ مُحْتَشِمًا مَعَ إِلهِكَ} [ميخا 6 : 8]. وأنَّ أي مساس بكلمة الله العليا، من الحرية لكل الناس والعدل والمساواة، هو مفسد للقتال إن كان فردًا أو جماعة، وأي هدف غير هذا فهو ليس قتالاً في سبيل الله حتى ولو كان هدفًا نبيلاً.. فلا نزيِّن لأنفسنا ما هو قبيح في تعاليم القرآن.
ولكن توجد آيتان قرآنيتان قد يهدمان للوهلة الأولى مقاييس الله سبحانه وتعالى، وهما:
- أ- قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].
- ب- وقوله أيضًا: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
ولقد فسرها المفسرون بما يلي:
- أول القتال ضرب يقطع الهامات ويقتل العدوَّ حيث كان، فلا رحمة مع الأعداء الذين إن ظهروا علينا فلن يرحمونا..
- فإذا انكشفت الأعداء وظهر الضعفُ فيهم وبدأوا الهرب أو الاستسلام وخضِّدَتْ شوكتهم فلا بأس من اتخاذ الأسرى، فحربنا ليست لإبادة الناس، إنما لإخضاعهم، فيسمحوا لنا بنشر ديننا دون مضايقة.
- ويظل هؤلاء الأسرى في بلاد المسلمين حتى تنتهي المعركة وهنا يمكن لنا تسريح الأسرى حسبما يقتضي الأمر.
وهذا ما يُنظر إليه بحسب التفسير السطحي للآية، والذي يبتعد كليًا عن مقاييس الله سبحانه في القتال، فكيف لنا ننظر إلى هاتين اﻵيتين وغيرهما حول القتال من منظور الرحمة المدعاة؟!
لا بدَّ أن ندرك -أولاً- أنَّ القصص القرآني المتعلق بقصص الأنبياء، من آدم وحتى محمد صلوات الله عليهم، إنما ذكرت من أجل العبرة فقط، وﻻ يؤخذ منها تشريع مطلق، وعادة ما تكون هذه القصص خاضعة لمناسبات نزولها، ولا تتعلق بأسبابها، بل تتعلق بالأحداث التي حصلت في زمانها تلك.
فما حدث في صلح الحديبية -مثلاً- ليست مقياسًا لأي صلح يقع بين المسلمين وغير المسلمين في هذا العصر..
وكذلك العقاب المطبَّق على بني قريظة -إن صح التاريخ- فهو يتناسب مع شريعة اليهود.. فإذا خاضت دولتان الحرب، فقد يحق لإحداهما -إن رغبت – تطبيق عقوبات الأخرى إذا كانت أشد، ولا شك أنَّ الحروب في عهد الرسول تختلف عن الحروب عندنا، ويجب أن نتقيد في حروبنا الآن بالمعاهدات الدولية المتعلقة بالحرب واﻷسر.
وقس على ذلك موضوع الإعدام بقطع الرأس؛ فقد كان طبيعيًا في ذلك الزمان في العالم كله.
ومع كل هذا فإنَّ (الضرب) -في الآيتين- لم يكن من باب إيقاع السيف بالمعتدي، وإن كان إيقاع السيف في المواجهات العادية لا إشكال فيها.. ولكن ينبغي ملاحظة أنَّ للضرب -هنا- دلالتها الأخرى:
- إنَّ الله تعالى استخدم لفظ {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} وهو إشارة الى مراكز تمويل الجيش وإيصال الأوامر اليه.
- واستخدم أيضًا ضرب البنان {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} فكلمة ضرب تدل على إيقاع شيء على شيء بحيث يترك في أثرًا بالغًا؛ والبنان إشارة إلى الأفراد البارزين للقتال. قال ابن فارس: “وإنَّما اشتقاق البنان من قولهم: أبنَّ بالمكان، إذا قام. فالبنان به يُعتمَد كلُّ ما يكون للإقامة والحياة” (مقاييس اللغة: ج 1 ص 188).
- وأما ضرب الرقاب {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} فلا يعني بتر رقبة الإنسان، والرقاب جمع رقبة التي تدل على ما ينصب بقوة لحمل غيره، فهي إشارة إلى ضرب المسؤولين الكبار في جيش الأعداء الذين يمثلون مراكز قوى الجيش، وهم القادة المخطِّطون الذين يرقبون القتال ويقررون له مساره من آلة وعتاد وبشر.. فالمطلوب شلُّ حركتهم وفاعليتهم؛ فليس من الدين أن يطلب إزهاق حياتهم.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): “فَوَاللهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْمًا إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إِلى ضَوْئِي، فهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا” (نهج البلاغة: 54).
مهما يكن، لا بدَّ للنص في قيمه ومقاصده وأحكامه أن يبقى حاكماً على الواقع وليس العكس. وهنا لا بدَّ من تجاوز الوقوف على حرفية النص، وإعادة النظر في (حجية الظهور)، فما فهمه الأقدمون من النص، ليس بالضرورة أن نفهمه نحن اليوم منه. لا بدَّ من الاعتراف أنَّ فهم دلالة النص تتأثر بالواقع الاجتماعي، وثقافة الفقيه، ومزاجه الشخصي، وروح العصر الذي يعيشه.
أما عندما يغيب النص الصريح والمباشر، فإنَّ العقل هنا لا بدَّ له أن يلعب دوره من خلال الإحاطة بروح النص فيما نسميه بالتفهمية القيمية التي تتجاوز الفهم المجزأ والموضوعي معاً.
لقد اعتبر الشريف المرتضى أنَّ أدلة العقول -وهي متطورة بحسب الزمان والمكان- ليس فيها احتمال ومجاز وتأويل، خلافاً للنص، ومن ثم لا بد من صرف كل ظاهر للنص بما يوافق هذه الأدلة (أمالي الشريف المرتضى: ج 2 ص 125-126).
كما اعتبر في محل آخر أنَّ ظواهر الكتاب الكريم اما أن تكون محتملة مشتركة أو أنها ظواهر خالصة، وفي كلا الحالين لا بدَّ من الرجوع إلى الأدلة العقلية المخالفة لهذه الظواهر؛ باعتبار أنَّ هذه الأدلة قطعية (رسائل الشريف المرتضى: ص 14 و 24 و 93).
وجاء عنه أيضاً تأكيده بأنَّ للعقول >دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل< (رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).
وهو نفس ما قرره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكدَّ هذا المعنى وهو أنَّ ظواهر النصوص تبنى على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بدَّ من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها للعقل (الاقتصاد في الاعتقاد: ص 162؛ الرسائل العشر: ص 325).
إنَّ العقل والنص يتفقان حول مجموعة القيم الإنسانية الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة والإحسان والخير والجمال، ويدعوان إلى تنزيه وسائل تحقيق هذه القيم عن إيذاء الآخرين أو ظلمهم أو إلحاق الضرر بهم .. وهذه هي تعاليم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
سلمت يمناك وجزاك الله خير الجزاء احسنت شيخنا العزيز