صناعة الوعي وثقافة المجتمعات
المهندس على كريم
تعيش البشرية في هذا العالم مختلفة الأجناس والثقافات واللغات والأديان، في بلدان مترامية الاَطراف، بعيدة المسافات لكل منها حضارة وتاريخ تتناقله الأجيال، ليكون حصنا لها في ظل المتغيرات التي تطرأ على مر العصور.
من هنا وفي ظل هذا التطور الكبير الذي أصبح فيه هذا الكون كالقرية الصغيرة صرنا نرى كل هذه الأمم أمامنا شاخصة بكل تجاربها وكل ما يدور فيها.
بعد هذه المقدمة وما نراه اليوم على الواقع، هناك دول ومجتمعات استطاعت أن تبني لها منظومة قوية وعلى أسس متينة، مستفيدة من هذا التطور العلمي الهائل لتنمي شعوبها، ليكونوا في المقدمة وتكون لهم هذه المنظومة الدرع الواقي لأي طارئ قد يحدث،
وأحد هذه المفردات في المنظومة هو صناعة الوعي والذي قد يكون أساسيا لبقائها وديموتها.
وعلى حسب ما يعرفه أهل المعرفة فإن صناعة الوعي يعني الآلية التي من خلالها يتم استنساخ أو تطوير العقل البشري ليكون منتجا متحركا مفكرا غير جامد، لذا فإن عملية صناعة الوعي لا تقل أهمية عن الصناعات المختلفة بل هي من أعظم الصناعات، فكل الحضارات البشرية تطورت حينما اهتمت بصناعة وعي أجيالها المتعاقبة، فنلاحظ أن الدول التي استاطعت أن تتبنى هذا الفكر في منظومتها التعليمية والإعلامية هي من تستطيع أن تقاوم كل فكر دخيل أو خطر محدق بأقل التكاليف والخسائر وأسهل الطرق.
لهذا تدخل صناعة الوعي في ثقافة المجتمعات ورقيها، فكثير من الدول لا تحتاج لنشر الجيوش مثلا، لتطبيق قرار ما هو في مصلحة المجتمع، بل المجتمع بذاته وبثقافته وما تعلمه ونشأ عليه سيطبقه بدون عناء.
أقرب مثال، الآن، وفي ظل هذا الظرف الذي يعصف بالعالم، هو الشعب الصيني وتعامله الواعي جدا بهذا الخطر، فقد استطاع أن يحسر هذا الوباء عن بلده سريعا بتطبيقه التعليمات، وبدون تردد فكانت الدولة بنظامها الصحي وكان الشعب بوعيه المعرفي.
وفي ظل هذه التجربة للأسف سقطت كثير من الدول في هذا الامتحان بغطرستها المادية، وكثير من الشعوب بعقليتها الجامدة التي عفا عليها الزمن.
لهذا نرى كثير من الدول تمر بأزمات وتخرج منها منهكة مثقلة وقد لا تتعافي إلا بعد جهد ووقت طويل، ودول تمر بظروف أقسى ولكن تتعداها بكل قوة وثبات، وكل ذلك لأن عندها شعب تشبع وعيا فاستطاع أن يعين دولته لتكون في سلام.
والحقيقة المرة التي لابد أن نعترف بها أننا لا نصنع وعيا في مدارسنا أو جامعاتنا، بل نصنع شهادات علمية مصنفة في العلوم التطبيقية والحياتية، لذا نرى الكثير من حملة البكالوريوس والدكتوراة وغيرهم بلا هوية، ولا أسلوب ولا إدراك أو مسؤولية لما حوله، فترى العقل موجه في اتجاه واحد وغير مبرمج لأي أحداث جديدة أو متغيرات على مستوى الحياة أو العالم، ولهذا نرى في بعض التخصصات لا تعطى الشهادة لأي متخرج حتى ينجز بعض الأمور التطبيقية الهامة في تخصصه، فيعمل عدة أشهر ليمزج الدراسة الداخلية مع التطبيق الخارجي، وكمثال حي أيضا فالمعلم قد يكون بارزا في تخصصه ولكنه لا يستطيع إيصال ذلك لطلابه أو التعامل معهم بالأسس العلمية والأخلاقية الصحيحة، فصار من الضرورة أن ينجز دورة تطبيقية في هذا المجال حتى يعطى هذه الشهادة وإلا سيُخرج لنا جيلا ملقنا ليس لديه هوية.
ومن هذا المنطلق بات لزاما أن يكون صناعة الوعي عنصرا مهما يدرس في مناهجنا، مثله مثل بقية العلوم بل قد يكون أهمها وأسبقها، وأن يكون من التنشئة حتى آخر مرحلة من الدراسة، لتستطيع دولنا وأوطاننا أن تكون أقوى بشعبها الواعي الذي سيكون حصنها المتين ضد أي مؤامرات، وسيكون جبهتها الداخلية القوية التي سيُنجح كل خططها في محاربة أي دخيل أو طارئ من أي نوع كان يهددها.
فلنبدأ ونصنع لأجيالنا وعيا معرفيا وإعلاميا واقتصاديا وسياسيا يبنون به بلداننا، ويحافظون على حضارتنا وإرثنا جيلا بعد جيل ولنكون في مقدمة الأمم