الخوف القاتل
بلقيس السادة
أرثي لحال اِمرأة عاجزة تحاول الخروج من قيود سَجانها، مغلولة الأيدي والأرجل، أراها، تغلغل الخوف في داخلها حتى أصبحتْ تَهاب ظِلها.!!
إذا خرج تحررتْ وبدت اِمرأة ذات ثقلٍ وتفكير، مع أطفالها تكون طفلة، وفي منزلها ربة بيت من الدرجة الأولى تطبخ وترتب وتغسل وتُعلم، وبمجرد دخوله المنزل تتحول شَخصيتها إلى الست أمينه في رواية نجيب محفوظ بين القصرين!!
مالذي يجعل اِمرأة تعيش شخصيتين متناقضتين؟؟
لعدم الثقة في نفسها، أم لتربيتها العنيفة، أم للقمة العيش التي يمّن عليها “سي السيد” لِيُطعم فراخها، وتخاف عليهم من الجوع والتشرد وحرمانها منهم..
ليست دعوة للتحرر من الرجل، إنها دعوة للتحرر من “سي السيد”.
علامات فارقة بين رجل نبيل الخُلق والطبع يراها بجانبه تعاضده في السراء والضراء، وأنيستهُ وأنيسها في الحياة، وبين من يراها خادمة له، مطيعة كعنزة تُسحب إلى جزارها!!
ومن يحالفها الحظ تكون هي الزوجة الوحيدة في حياته، وإلا له الحق في الزواج مثنى وثلاث ورباع.
ليس العيب في تعاليم ديننا الحنيف، حاشا وكلا، بل العيب في من يستخدم ذلك لأهواءٍ في نفسهِ.
تم الاتصال بها من مدرسة إحدى بناتها للحضور، أخبروها بأنها متعبة، قلقت عليها، لبست على عجل وأخذت طفلتها الصغيرة وخرجت إلى المدرسة ماشية، لا تستطيع الاِتصال بزوجها، لكي لا تزعجهُ وخوفاً منهُ!!
وهناك عند المشرفة الاجتماعية بالمدرسة، تحدثتْ إليها الباحثة عن سبب وجود كدمات زرقاء على جسد اِبنتها الصغيرة، في الصف الثالث الاِبتدائي ، أخبرتها: بأنها وقعت على الدرج!!
وعندما حاصرتها المُدرسة بالأسئلة، والبحث، وأن هذا ليس أثار وقوع..
سكتت قليلاً، ومسحت قطراتٌ من الدموع تساقطت على وجنتيها، قالت بصوتٍ تغلبه الغصة: أين أذهب بالأولاد، لا شهادة، ولا وظيفة بدون شهادة، تَزوجتُ مبكراً في الثالث متوسط، كان شاباً صغيراً، لكنه عنيف عصبي، حاولتُ جهدي أن أمتص غضبهُ ولا أُجادله عندما يكون غاضباً لأتفه الأسباب، أشغل نفسي بالتنظيف أو أي شيء، أو أذهب إلى غرفة أُخرى لا يكون فيها، لكنهُ تجرأ أكثر أصبح الضرب ديدنهُ، ليس لي فقط، فهذا قد أتحملهُ!! لكن الأطفال.!
هذا الشيء المؤلم الذي جعلني أتكلم لكِ الآن ولا أستطيع السكوتَ عليه، لقد سَرقَ مني أجمل سنوات شبابي، وعشتُ معهُ بالعصبية والصراخ والشتم، حتى فَكرتُ في قتلهِ أو الانتحار، لكني أخاف عقاب الله في كلا الحالتين، دبريني ماذا أفعل؟؟
المشرفة: ألا يوجد لديك والدين أو إخوة أو عائلة؟؟
أم فهد: والدّي توفيا، وأخوتي في منطقة أُخرى، والحالة المادية صعبةٌ، لا أستطيع أن آخذ الأولاد وأنا أعرف حالتهم المادية، ولا أستطيع ترك الأولاد معه، أخاف عليهم منه!!
المشرفة: حسناً أولاً أعطيني العنوان كاملاً، والاسم كاملاً، ورقم بطاقة أحوالكِ.
ثانياً اِذهبي الآن كي لا يَستبطُئكِ وتحدثْ أمورٍ أنتِ في غنى عنها، وسأتصل بالجهات المسؤولة، للبت في الأمر..
خرجت أم فهد حاملة طفلتها الصغيرة ذات السنة وثلاثة شهور، وعندما سألتها المشرفة: عن سبب الخلفة كثيراً وهي ليست سعيدة معه، أخبرتها بأنه من يريد الخلفة الكثيرة، رغم مشقة الولادة والتربية !!
وصلتْ المنزل، كان هناك، لم يسأل: أين كانت؟؟
فقط رفع يدهُ وهوى بها على خدها، وخرج!!، وقعت على الأرض مع طفلتها من شدة الصفعة، عندما خف ألمها، قامت لشغل المنزل، تطبخ الغداء اِستعداداً لحضور الأولاد من المدرسة.
قامت الجهات المسؤولة بالسؤال عنه، وزيارة الولد الأكبر في المدرسة والجلوس معه، وتحدثَ طويلاً عن والدهِ: وكيف إنه حولَ حياتهم جحيماً، تكلمت معه بهدوء وأدب عن سبب ذلك: لكنه توجه لي ضارباً بيديه ورجليه، وعندما قامت أمي تدافع عني؛ نالها النصيب الأكبر من الضرب المبرح، وإخوتي بين صارخٍ ونائح وخائفْ، حولَ حياتنا في المنزل إلى جحيم عند وجوده، وعند خروجه نتنفس الصعداء!!
أخبر المسؤولون فهد: بأن ما دار بينه وبينهم سري، وعليه أن لا يخبر والديه بذلك.
بعد أِسبوع تقريباً، من الصباح الباكر وقبل ذهاب الأولاد إلى المدرسة، رن جرس المنزل، خرج فهد وفتح الباب، دخل المسؤولون مع الشرطة في ساحة المنزل، سألوه: إن كان أبوه هنا؟؟ أجابهم: نعم، قالوا له: نادي عليه!!
والشرطة يسمعون صراخه على الولد.. لم التأخير على الباب!!
حضر الأب، قيدوه، وأخذوه إلى السيارة، كانت معهم امرأتان مسؤولتان، دخلتا الباب بعد الاستئذان، أخبروا أم فهد بأن عليها أن تجمع الأغراض الأساسية للأطفال، والكتب المدرسية. على عجالةٍ لمت الأساسيات، وخرجتْ معهم وهي لا تعلم شيئاً، وهناك في منزل متوسط المساحة جديد مؤثث بكامل احتياجاته من أسرة ومطبخ وأواني وأكل، أخبروها بأن هذا منزلها مع الأولاد، وعليها في الأسبوع القادم أن تباشر عملها مراسلة في مدرسة بنات براتب خمسة آلاف ريال، وأعطوها راتب شهر مقدماً.
في اليوم التالي كانت هناك سيارة كبيرة أمام منزلها القديم لتحميل الأغراض المخصصة للأطفال من ملابس وألعاب وباقي الكتب..
اِنتهت رحلة الشقاء بالنسبة لأم فهد وأولادها، أخيراً نعِموا بالهدوء والابتسام واللعب، والاستقرار النفسي والعاطفي، أغدقت عليهم الحب والعطاء..
صغيرتها تضعها في حضانة المدرسة التي تعمل بها، وباقي الأطفال في مدارسهم، كرست حياتها لهم، أعطتهم الحب والحنان والرعاية وأعطوها التفوق والاستقامة.
أما الوالد فقد سُجن، وأحيل إلى عيادة نفسية، هذا آخر معلوماتها عنه.