تلك الرواية.. ذلك الدليل

محمد الماجد 

أحببت أن أشير هنا إلى الرواية، وأحببت أيضاً أن تكون هذه الإشارة تحديداً إلى تلك الرواية التي تتوسّل بالتجربة الروحية كنواة كي تبني عليها كلّ ما سيأتي لاحقاً من سَرْد وأحداث روائية وأدوار، اسم (الرواية) الذي ذكرته في عنوان هذا المقال أقصد به هذه الرواية بالتحديد، وكنت أقصد بـــ (الدليل) تلك التجربة الروحية المتوقّدة على الدوام. هذا الدليل الذي سيظهر بشكل جلي وواضح في بعض الروايات بينما سيكون مضمرا وملتبساً في روايات أخرى.

السياقات الروحية للنوع الأول من هذه الروايات أخذت ثلاثة مسارات: لاهوت، تصوّف، فلسفة. فيما يتعلق بالمسار الأول يمكن الإشارة إلى رواية (حاج كومبوستيلا) لباولو كويلو، حيث يقف (الدليل) أو المعلم بتروس على عتبة الرواية ليلقي بتعاليمه وتمارينه على الراوي، حتى يتسنى لهذا الأخير قطع طريق مار يعقوب ماشياً، وبطرائق تساعده على إعادة اكتشاف ذاته.

وكمثال على المسار الثاني سأميل للإشارة إلى رواية (قواعد العشق الأربعون) لــــ إليف شافاق، التي ستكون كريمة معنا كما هي عادة الروائيين الأتراك، حيث ستقدم لنا دليلين عوضاً عن معلّم كويلو الوحيد بتروس: شمس التبريزي وعزيز زاهارا، الأول سيأخذ جلال الدين الرومي إلى منابع العشق الإلهي، بينما الثاني سيأخذ الأديبة الأربعينية إيلا -وبعد ثمانمائة عام من وفاة الدليل الأول- إلى ذات المنابع ولكن بعد أن تكون قد استحالت إلى عيون من الحب والحرية والسلام.

في المسار الثالث سيتحول (الدليل) إلى كاتب رسائل إلى صبيّة تُدعى صوفي في الرواية المعروفة بـــــ (عالَم صوفي) للروائي النرويجي جوستاين غاردر. البرتو كونكس هو ذلك الدليل الذي سيشد حبال الصبية الطرية إلى شراع من الأسئلة المحبوكة بعناية والجاهزة دائماً لصدِّ كلّ المهبّات الفلسفية، أسئلة تتبعها أسئلة ربما دفعت الصبيّة عدة مرات لتتحسّس عقلها لتجده مثل اسفنجة حارة عليها أن تمتص جميع أسئلة البرتو الوجودية والعقلية. وإذا كان لناقد حداثي متحمّس أن يسأل عن أيِّ جانب روحيٍّ نتحدث في رواية تمتد لأكثر من خمسمائة صفحة من الفلسفة الصلدة، فعليه وبقليل من التواضع أن يلمس بأصابعه قماشة (الماوراء) التي لولاها لما تمكّن غاردر ولا الفلاسفة المعمرون في روايته من حياكة كلّ تلك العُقَد الفلسفية حتى بدت الرواية وكأنها عربة من المجرات المقطورة بخيول وفرسان غير مرئيين.

أمّا النوع الثاني من الأدلّاء، النازفون على الدوام، المضْمَرون تحت لسان الرواية وكأنهم سكاكين مشحوذة، فعلى القارئ أن يجدَّ ويكدحَ في البحث عنهم بين حطام الرواية، حيث الألم ونوازع الشر ونظرات الإزدراء تطاردهم في كلِّ اتجاه، فهم إما بُلهاء أو مجذومون أو مرتكبوا خطيئة، ولكنهم غالباً ما يتسيّدون المشهد بعنفوان لا يحسدون عليه، منتصبون بكل ما يملكون من شجاعة للكشف عما بدواخلهم من سمو ومثالية طافحة أو حتى من انحطاط وولع بالرذائل. الأمير ميشكين أو أبله دوستوفسكي سيكون واحدا من هؤلاء، كوازيمودو أو أحدب نوتردام سيكون مثالاً آخر، أنّا كارنينا ومدام بوفاري، الأولى مدفوعة بتأنيب الضمير والثانية بمآلات الغريزة المدمرة لا يمكن إلا أن تكونا كذلك أيضاً.

في الخلاصة وللمفارقة يمكن القول بأن شمس التبريزي وأبله دوستوفسكي هما شخص واحد غير أن طبيعة الدور تطلبّت منهما أن يكونا مختلَفين … مختلَفين في الشّكل وليس في المضمون ..!

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×