طرائف التاريخ وأساطيره
توفيق السيف
يقال ان الملحمة الشعرية الهندية “مهابهاراتا” هي اطول قصيدة حفظها تاريخ البشر. ويصل عدد ابياتها الى 220 ألفاً، وتتألف من 18 فصلاً. وجرى تحويلها الى مسلسل تلفزيوني من 95 حلقة. وبلغ من تأثيرها أن بعض المدن الهندية، كانت شوارعها تخلو من المارة، ساعة بث المسلسل. تروي الملحمة قصة الصراع الدائم بين الخير والشر ، وتعرض العديد من القيم والحكم والاخلاقيات، والآداب والأعراف المشهورة في الثقافة الهندية.
تقدم الملحمة أفكارها في قالب أسطوري يتجاوز حدود الخيال. خذ مثلاً ذلك الأمير الشجاع الذي غضب، فحرك بيديه الغيوم، فسالت أمطاراً حولت الأرض أنهاراً، فأغرقت جيش عدوه عن آخره. وخذ قصة الحكيم الذي ألقى جثة الأميرة في نهر من ماء الورد، فأعادها الى الحياة. وخذ قصة القائد الذي خانه أحد ضباطه، فأطلق سهماً طار عبر الجبال والأودية والغابات، وبحث عن الضابط الهارب، حتى وجده مختبئاً في كهف، فأصابه في قلبه وقتله. ويعلم القاريء بطبيعة الحال أننا نتحدث هنا عن سهم في التاريخ القديم، وليس عن صاروخ كروز أو طائرة درون.
والحق اني لم أكترث بقصة المهابهاراتا، حتى قيض لي لقاء مع أديب هندي، فتحدثنا عن الفن والفلسفة الهندية، فذكرت قصة السهم الخارق، على سبيل النكتة، فتوقف الرجل وسألني بجد:
لماذ ترى أن هذا الشيء مستحيل؟.. أليس محتملاً أن بعض الناس، في وقت ما في الماضي، استطاعوا فعل أشياء نعتبرها اليوم خوارق؟
والحق اني فوجئت بالسؤال، فلم أتوقع أن أحداً يحمل قصة كهذه على محمل الجد. لكني وجدت بعد ذلك بسنوات أن مثل تلك المعتقدات شائعة جداً، وان هناك من حاول ربطها بمعتقدات دينية، فأصبحت مصونة من النقد العلمي والتاريخي، أي تحولت من أقاصيص إلى مسلمات.
وأخبرت أستاذاً لي عن القصة فشرح لي الدليل الذي يكثر استعماله في هذا النوع من الجدالات، والذي يسمونه “قاعدة الإمكان” أو “دليل الإمكان”. وخلاصته؛ أنه اذا كان الشيء غير ممتنع بذاته، على الله أو على الناس، فإن حدوثه في الواقع ممكن، ولا ينبغي إنكاره دون تحقيق. والحق اني اقتنعت بالفكرة ، لكنه – رضوان الله عليه – بادر بالرد عليها رداً مفصلاً ، خلاصته أن الله قادر على فعل مايشاء. لكن النقاش ليس في قدرة الله ، بل في حدوث الحادثة في التاريخ. ما لم يكن لدينا دليل على حدوثها، فإن الأصل أنها لم تحدث، ومجرد قول أحدهم إنها حدثت لا يغني عن الحاجة الى التحقق منها، مثلما نتحقق من اي رواية تاريخية.