[4] السيحة وسمر في الذاكرة بنت الشاطيء تعبر طريق العيّاشي آتية من الدمام
عدنان السيد محمد العوامي
بنت الشاطئ في القطيف؟! ما الحكاية؟
فكرة الرحلة بدأت في مستهل عام 1951هـ ، 1370هـ، حين تدارس نفرٌ من أساتذة جامعة الملك فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد)، وبعض طلبتها في كيفية قضاء عطلة نصف العام الجامعي، فاختار فريق السودان، وفريق آخر آثر الذهاب إلى الحجاز لأداء العمرة والزيارة، وبسبب فداحة نفقات الرحلة تخلَّى أكثر الراغبين عنها، ولم يبق سوى عشرة، اثنان من كلية الآداب، ومثلهم من كلية التجارة، وخمسة من كلية الطب، وواحد من كلية الزراعة، ووُضع برنامج الرحلة، مقتصِرًا على السفر بالطائرة إلى جدة، وباقي الرحلة إلى مكة والمدينة بالسيارة.
وتقضي المشيئة الإلهية أن يزور القاهرة – في تلك الأثناء – صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز (رحمه الله)، وأن يبلغه خبر اعتزامهم السفر للعمرة، فتبرَّع بتحمل نفقات البعثة، وابتعث من يودعهم في المطار.
في جدة التقى السَّفْرُ بالشاعر خالد محمد الفرج([1])، وكانت لأحدهم حاجة في كتاب الشافي للشريف المرتضى، فسأله أين يجده، فاقترح عليه أن يزور الوفد المنطقة الشرقية، فيزوروا مناطق النفط، فتتاح لهم زيارة القطيف، وفيها يجدون الكتاب لا محالة، فهل وجدوا الكتاب؟ وكيف؟
بعد أن أتم الوفد العمرة، عرَّج على الرياض، فزار الملك عبد العزيز (رحمه الله)، ومن الرياض، واصل سفره إلى الشرقية، وهنا نترك لصناجته ابنةِ الشاطئ تكمل لكم الحديث.
(أصداء من الجزيرة العربية)
من بعيد
(أكتب هذا وما تزال ملء سمعي أصداءٌ آتيةٌ من بعيد.. أصداء قوية لسمر أدبيٍّ حافل، ملأ إحدى أمسيَّاتنا في شرق الجزيرة، حين اجتمعنا بإخوتنا علماء القطيف وأدبائها على ساحل الخليج.
* * *
كانت زيارتُنا، لهذه المنطقة النائية، على غير موعد، فما دار بخَلَدِنا ونحن نتهيَّأ للسفر إلى جزيرة العرب، أننا قادرون على أن نبلغ أقصى شرقها، في رحلة لا تتجاوز خمسة عشر يومًا، لو لا رعاية كريمة من جلالة عاهل الجزيرة، هيأت لنا أن نذهب حيث شئنا على متن الطائرة، فطُوِيَت لنا الأبعاد، واستطعنا أن ننتقل من الحجاز إلى نجد، فالأحساء، فالخليج العربي.
هناك ذكرنا “القطيف” في ما ذكرنا، ورأينا حقًّا علينا أن نلمَّ بمكانٍ لعب في تاريخنا الديني والسياسي والأدبي دورًا ذا بال.
وما كان يُغْفَر لنا أن نكون بالأحساء ثمَّ لا نزور منطقة البحرين التي كانت منزلَ بكر بن وائل، وعبد القيس، وفي ربوعها نشأ شعراءُ فحول، لهم في الأدب العربي مكانٌٌ أيُّ مكان! ومن وراء مرتفع الصمَّان الصخري الذي يتوسط بينها وبين الدهناء فيعزلها عن نجد، تسللت جموع القرامطة في القرن الثالث الهجري، حتى إذا جاوزوا الأحساء اندفعوا كإعصار مارد، يلقُون الرعب في القلوب، ويعيثون في الجزيرة فسادًا، ويأخذون طوائف الحجيج عامًا بعد عام، فيقتلون مسرفين في القتل، ثم يعودون بالأسرى إلى هجَر، وما جاء القرن الرابع حتى كان زعيمهم أبو طاهر الجنابي القرمطي يتسلق أسوار البصرة في نحو ألفين من رجاله، ويغلِب على الكوفة، ويتسلم الأنبار، ويفتك بعسكر الدولة عدته بضعة عشرات من الألوف.
أجل، كان حقًّ علينا، ونحن في الأحساء، أن نُلِمَّ بالقطيف، ومنطقة البحرين، فمضينا ونحن نردِّد قول الشاعر:
وتركن عنتر لا يقاتل بعدها
أهل القطيف قتال خيل تنقع
وقول الآخر:
نصحت لعبد القيس يوم قطيفها
فما خير نُصحٍ قيل لم يتقبَّلِ؟
فقد كان في أهل القطيف فوارسٌ
حماةٌ إذا ما الحرب ألقت بكلكل
* * *
اتجهت بنا السيارة إليها في الطريق الصحراوي المعبَّد من ميناء الدمام، ونحن نرنو – في تأمُّلٍ صامت – إلى الصحراء الممتدة، وقد أذابت شمس الأصيل فيها أشعتها الذهبية الغاربة.
ولاحت لنا القطيف من بعيد، واحةً ناضرةً على حدود الصحراء، وجنَّةً خضراءَ على حافَّة القَفْر المجدِب. ومراحًا عامرًا شمالي “الرَّبع الخالي”، وإذ ذاك بدأت السيارات تتعثر في دروبٍ ضيِّقة تحفُّ بها البساتين عن يمينٍ وشمال، وتجري فيها الغدران فيَّاضةً بمياه العيون والآبار.
وتهادى إلينا نسيم المساء رخيًّا عليلاً، معطَّرًا بأريج الأزهار، وشذا الثمار، ورائحة العُشب، وانبثقت أضواء الشَّفَق الورديِّ فتوَّجت هامات النخيل الباسقات، ثم نفذت من بين الفروع والأغصان، واستلْقَت في وَهْنٍ وتراخٍ على صفحة الغدير المتألِّق، وفوق الشعب الندي، غير مكترثة لصراخ “الكلاكسون”، ولا عابئة بنباح الكلاب، في آثار القطعان.
وكذلك استغرقنا، نحن، في خمول هنيء، لم نكد نفيق منه إلا على هتاف أهل القطيف وقد خرجوا بمشاعلهم يستقبلون ضيوفهم أبناء الكِنانة.
ولم يكتفوا منا بحفلة الاستقبال في دار الأمير حمُّود([2])، أمير القطيف، أو جولة عابرة في المنطقة، بل دعَونا إلى مجلس حافل أعدَّ لنا في بستان الوجيه السيد عبد الله إخوان، أحد الأدباء الأعيان.
وكانت أمسيَّة لا تنسى.
لم يبق في القطيف من لم يسعَ إلى مجلسنا هناك؛ ليلقي إلينا كلمة تحية وعتاب.
أما التحية فلمصرَ العزيزة الغالية، قِبلة أنظار الشرق العربي، ومهوى أفئدة أبنائه، وكعبة الروُّاد والقاصدين من طلبة العلم، وراغبي الثقافة، وأما العتاب فلأدباء مصر الذين نسوا أن في شرق جزيرة العرب واحةً اسمها القطيف، شاركت في صنع تاريخنا الإسلامي، وتركت في تراثنا الأدبي أثرها الباقي.
إن دارينَ ما تزال هناك ترجِّع صدى النابغة الجعدي والفرزدق، وغيرهما من الشعراء الذين لم يجدوا ما يشبِّهون به عَرْف الحبيبة أذكى من مسك دارين، وإنَّ بساتين هجر باقية حتى الساعة، مثمرةً غنَّاء، تبتسم للضاربين في الصحراء، وتعدهم بالظلِّ والثمر والماء، كما كانت في قديم الزمان، يوم ضُرِب بها المثلُ فقالوا: “كحامل التمر إلى هجر”.
وهناك ما تزال آثارٌ من الكعيبة تروي قصة ذلك الحلم الأحمق، الذي راود أبا طاهر القرمطي، وزيَّن له أن يجعل من هجر وارثة لمكة، فوافى البلد الحرام إبَّان موسم الحج عام 317هـ ودخله في تسعمائة من شيعته، فقتل أميرَ الكعبة، وفتك بألوفٍ من الحجيج في المسجد الحرام، وفي فجاج مكة، وقلع باب الكعبة، وانتزع الحجر الأسود، ثم اعتلى سطح البيت وهو يصيح:
أنا بالله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
قيل إنه قتل بفجاج مكة وظاهرها زهاءَ ثلاثين ألف نفس، غير من سبى من نساء وغلمان، وأقام بمكة ستة أيام، ثم عاد في موكبه الحافل يحمل الحجر الأسود، إلى هجر، فبقي بها هذا الأثر المقدس نيفًا وعشرين سنة، حتى أعاده القرامطة إلى مكة عام 339هـ، وهم يقولون: رددناه بأمر من أخذناه بأمره!
أما تستحق بلاد البحرين، بعد هذا، لفتةً من أدباء مصر، ودارسي التاريخ الإسلامي؟
إنهم ليحجُّون إلى الحجاز ألوفًا ذات عددٍ كلَّ عام، وإنَّ منهم من يُنتدب للعمل أو التدريس في الأحساء واليمن والكويت وحضرمَوْت، فما ألمَّ بالقطيف من كل أولئك زائر! وهي -على الهجر – لا تكفُّ عن ذكر مصر مصر، وتتبًّع أخبارَها العلمية والأدبية، بل هي في معزلها النائي المهجور على ساحل الخليج تستورد البضاعة الأدبية، وتعرف عن سَير الفن والحياة بها، وأعلام الأدب والفكر فيها ما يجهله المصريون أنفسهم. غير قلة من الدارسين.
كم تألَّمت وأنا أصغي إلى حديث أهل القطيف عن معاركنا النقدية، ومذاهبنا الفنِّيَّة؟! كم خجلت وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاَّتنا، نحن الذين لا نشعر بهم أو نُلقي إليهم بالاً!
كما تأثَّرت وأنا أسمع الشاعر “عبد الرسول الجشِّي([3]) ” يُعرِّفنا ببلده الذي هو قطعة من وطننا الشرق العربي.
هذي بلادي وهي ماضٍ عامرٌ | مجداً، وآتٍ، بالمشيئةِ، أعمَر |
ألقى عصاه على فسيح ضفافها($) | وعلى الجزائر عالَمٌ متحضِّر |
وأذلَّت التيارَ تحت شراعها | فلها عليه تحكُّمٌ، وتأمُّرُ |
وترى السفائنَ بالتوابل والحُلى | والعطر من بلد لآخر تمخر |
شهدت مواني الهند خفْقَ قُلوعها | فكأنَّها، فوق المياه، الأنسُرُ |
ولها على وادي الفرات ودجلةٍ | فضلُ المعلم، وهو فضلٌ يُشكر |
* * * | |
وأتت ربيعةُ، وهي غُرَّةُ يَعْرُبٍ | وأذَبُّها، يومَ الكفاحِ، وأصبَر |
وأعزُّها جاراً وأكثرُها حمىً | إذ يُمْحِلُ البلد الخصيبُ، ويقفر |
فرأت بها الوطنَ الخصيبةَ أرضُه | للماءِ فيه تَدَفُّقٌ وتفجُّر |
والنخل وارفة الظلال كأنها | جيشٌ كثيف في الخليج معسكر |
تُهدي لها الصحراءُ في السَّحَرِ الصَّبا | فتمرُّ، كالحلُمِ اللذيذِ، وتخطُر |
والبحر يُهديها اللآلئَ زينةً | وتجارةً فيها الغِنى يتوفَّر |
وكصفحةِ المرآة جوٌ مُشْرِقٌ | وكلوحة الفنَّان رِيْفٌ مزهر |
ورأت بها لغة العروبة بيئةً | شعريَّةً تُوحي، وجوًّا يَسحر |
فإذا الضفاف نشائدٌ مسحورةٌ | فكأنَّما، في كلِّ حلقٍ، مِزْهَر |
الملهَمون، المبدعون تسابقوا | فيها بمدرجة الخلود، وشمَّروا |
شعراء (عبد القيس) تهزج بالهوى | فيجيبها من بكر رهطٌ أشعر |
فيها جنى (ابن العبد) حلو شبابه | راح، وريحان، ووجه أقمر |
وخيال (خولة) يستثير غرامَه | فيظلُّ في أطلالها يَتَحسَّر |
ولـ (جعفر الخطي) فنٌّ خالدٌ | وروائعٌ غنَّى بهِنَّ السمَّر |
للاستماع للتسجيل الصوتي اضغط يمين الفارة واختر فتح من القائمة https://chl.li/bntalshati
———-
([1])خالد بن محمد بن فرج الصراف الدوسري، ولد في الكويت، كان والده يقيم في الهند يحث يعمل تاجرًا بها، والتحق به ثم عاد إلى الكويت، وتخرج من مدارسها،، تردد على القطيف مرارًا حتى استقر فيها وأسس أول بلدية لها في العهد السعودي، شارك في حركتها الأدبية حتى عدَّ منها، توفي في لبنان مساء الجمعة29 ربيع الثاني سنة 1374هـ، 24 ديسمبر سنة 1954م. ديوانه، تقديم وتحقيق خالد سعود الزيد، نشر شركة الربيعان، الكويت، الطبعة الأولى، 1989م، ص: 18، الهامش: (1).
([2])هو حُمُود بضم الحاء والميم المخففة، والدار دار الإمارة. مرت نبذة عنه .
اقرأ أيضاً
[رحلة مصوّرة] صُبرة تعبر أقدم طريق “شرَياني” ربط القطيف بسيهات والدمام