مُسمياتٌ مُلتبسة: المخاضة.. لِرباط.. البَرُّوده مسمّيات أسياف ويابسة لم تدوّنها السير
حسن دعبل
كل مسمَّى لم يستمد مُسمّاه من مكانه، لم يخلّد في السّير، وحبر التاريخ، وذاكرة المكان.
حتى مدونوا السّير والأخبار الأوائل، لم يطأوا المكان أو يقتربوا من أسيافه. أخذتهم نشوة التدوين، ولم تأخذهم خيلٌ ولا إبل، ولا سفينة. وحده العلاء بن الحضرمي، وهو يدنو من المخاضة بفرسه يحسبها يابسة، حينذاك دونها بصرخته، فتلاقفتها الأمصار قبل البحر، والحرب، وصليل السيوف:
“اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعًا، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشُقّة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه”. ومن يومها دوّنت المخاضة كعبورٍ للماء، خفّت بها الإبل، وحذوات الخيل، ولم تركب جاريات السّفن.
فمن عبروا البحر بتلك الصرخة، ثقلت بهم الخيول والغنائم، والراكب ثقل به المشي قبل وصول الماء. تلك هي المخاضة التي غمرها الماء لحظة المدّ، ولمعت رملتها دمثة بعد انحسار البحر، ساطعة البياض.
لكنّ الناس، لا تعرفها، أو تتناقلها بلسان الأقلام والتدوين، شرّعوا المُخيلة بالأشرعة، ومسميات الرياح في هبوبها، وهم يتنقلون بين البحر والفرضة، أو يفرون إلى مفازاتٍ ونجودٍ، فلا يذكرهم الماء ولا البحر.
حكايات دوت، عبروا، وتعبّروا، أو من سمّوا بين الناس بـ “لِمعبّر”؛ مهنةٌ صبغتها الدراية، قبل الكفاف، وبعد العفاف. الدراية بالعبور قبل الغرق، والدراية بالإبحار قبل إنقلاب الموج، وغضبه. الدراية مهنة متوارثة، وعِلم خطّته الأبدان بملح الماء، وحفظته المهن بأسرار أسلافها.
ذاك هو ما يتداوله الناس عن المكان، ويستذكره من حاول الإقتراب من تلك المدونات. يتصفح المنقول، ويكتب. يخط القلم بلحظته، فتغيب، ويغيّب انحسار المكان، وأفوله، ودورة البحر، وفورانه على جزيرةٍ مزروعة وسط الماء.
بقيت حكايات أنيسة لوحشة الليل، ومن طال بهم انتظار العبور، وقائظة النهار. لأناس عبروا بحميرهم، فابتلعتهم تيارات الماء وخيرانه، وهبوب البوارح، ورياحها، وغدر البحر. حكاياتٌ لم تُؤرخ، شاخت بها عقول من عمّر بشجرة سنواته، فانحسرت، وتناست، وتناسى، ونُسي المكان بزحف الرمال، وغفوة الزبد الباقي من ملح تربته.
أيضاً تتناقل وتنتقل شفهية المكان، عن بيوتٍ عمرت وعُمّرت بأهلها، بين النخيل وأصيل الشمس وغروبها، بيوت يتطاولها البحر بغضبه، ويأنسها لحظة سدول الغروب، وهبوب نسمات الغربي بنسناسه. بيوت لم تعد لها أسماء، أو إرث بين سلالات الماء. سكنوا المكان، وغابوا. ربما شخصت بهم الأبصار، لغرباء مروا قربهم، أو تاهت بهم الخطوات، وصرخات استغاثة يائسة. قرية كانت تائهة بين الماء، وعبور الناس، وخوفهم من سوايب الشتاء، وبرد البحر. القرية مُلتبسة أيضاً بمسماها. أسمتها ذاكرة الناس “لِرباط”. الذاكرة ربطتها بفرضة البحر، ولم تربطها بالبيوت المسورة بفرضتها، أو التي بُنيت على جرف رملة، أو صخرة بحرية. الناس لا تستذكر من تلك القرية غير المكان الغائب، ولا تستذكر حتى آخر بيتٍ يمّم شراعه ناحية أرخبيلٍ شرقيّ شروق الشمس. الإسم المربوط برباط البحر والمخاضة، أكلته الرمال الزاحفة، وغيبه الترحالات وتحولاتها.
لم يبق غير مكان أخير، لاذ به الناس في حلهم وترحالهم، بين الخوف والوجل، وفرحة العبور، والوصول. المكان تطاوله التأويل، وتطاوله البقاء، قبل أن تُرمى الصخور، ويُردم البحر، وتمشي فوقه الدواب والبشر. أيضاً التبست به السيرة قبل المكان ومسماه، والتبس به الزحف، وشقته صخور رُميت وسط الماء، ففلقته إلى نصفين من بحرٍ، وصرخة موج حبيس. أسموه البَروده، ولم تُخلع عليه بردة، أو يُدثر بشراعٍ وأسمال. المكان يضاء خرمس ليله بفوانيس من تقطعت بهم السبل، أو فاتهم آخر معبّر قبل المغيب، فآخوا اللّيل بفوانيسهم، وفتيلها قبل انطفائه بهبّةٍ عابرة ونسمة. فاض المكان بعابريه، ومن لاذوا به قبل الهروب، وقبل عبور البحر، وسفر الحجيج.
لا تأويل يُذكر في التدوين، ولا قطرة حبر سالت من محبرة المدونين، غير تلك الحكايات التي تناثرت قرب المكان، وعطش الناس، قبل أن تهرق آخر قطرة ماء باردة، تكسرت جرّتها ففاض المكان بمسماه:
البروده أو بَروده، هو المكان الآمن الذي يصله، أو يسافر منه المسافرون بين جزيرة تاروت، وفرضة القطيف، وعبور الخور المائي، حيث يكثر به غرق الغرباء، ممن لا يألفون المكان، أو لم تكن لهم دراية كافية لعبور الخور. وبروده تُطلق أيضاً على إناء ٍ فخاري، يحفظ به الماء حتى يبرد، وسمي المكان باسم ذاك الإناء والماء الفخاري، لإناسٍ يأتون بالماء من عينٍ في تاروت لبيعه على المتعبرين وسقايتهم. وفي إحدى المرات، كان أحد التجار يريد العبور لليابسة ناحية القطيف ببضاعته وأمواله، وخدمه وحشمه، ولشدة خوفه وهلعه من البحر وعبوره، نذر بنذرٍ إن أنقذه الله ومن معه من الغرق، سيبني في هذا المكان ما يشبه استراحة للعابرين، ويوزع الأموال للسقايين والفقراء، كي يجلبوا الماء لهذا المكان، وتوزيعه على العابر والغريب، فكان له مبتغاه.
فسمي المكان بروده تيمناً بتلك الجرة.
اقرأ أيضاً