الدال المقدسة.. من تجربة الوائلي والفضلي على المجتمع أن يثق في نفسه ووعيه لا أن ينجرّ إلى الألقاب
مالك فتيل
في لحظة ضعف، يخون المُحارب “رولو” أخاه وقائده “راغنار لوثبروك”، يرتد، يصطف إلى جانب أعدائه، ويواجه جيشَ أخيه في معركة دامية، لكنه في نهايتها يجثو على ركبتيه أمام أخيه مُنهاراً، عاجزاً عن رفع سيفه في وجه أخيه. بعدها، يرفض القائد راغنار الحُكم على أخيه ويُوكل الأمر إلى من يُسمى بـ المُشرِّع.
في اجتماعٍ عام مَهيب، بحضور جميع من شهدوا المعركة، وقف المُشرِّع على صخرة مرتفعة، بدأ بسرد أفعال “رولو” وكيف أنها كبائر لا يمكن غفرانها، أخذ يرفع وتيرة خطابه مدفوعًا بحماسة الحاضرين المؤيدين له، وكأنهم بصيحاتهم يدحرجون جسد “رولو” إلى الهاوية. وفي لحظة حاسمة، عمَّ الصمت، وأعلن المُشرِّع عن عفوه عن “رولو”، متذرعًا بمشيئة الآلهة.
اعترض الجمعُ المُحبَط، تعالت الأصوات، اتجه أحدهم إلى القائد راغنار: “علينا قتله!”، أجابه راغنار بحزم: “كلا، علينا أن نتَّبعَ القانون”، ردَّ المُعترض: “ومن يكون هذا المُشرع، ليس إلا رجلاً عادياً”، فأجابه راغنار: “ليس كذلك عندما يقف على الصخرة المقدَّسة!”.
هذه الأحداث لمسلسل من التراث الاسكندنافي، يروي حكاية الفايكنج قبل 1200 عام، مليء بمشاهد الوحشية والطموح الدامي التي اتصفت بها تلك المرحلة من ذاك التاريخ في تلك الحضارة، ورغم ذلك، فالإنسان رغم تعدده وتنوعه وتفاوت مراحل معيشته يبقى بروح متصلة بنوازع قديمة، تجري كنهر نابع من قاع وجوده، بداياته، أولى التفاتاته إلى ذاته، حتى يومنا هذا!
يدور الحديث هذه الأيام حول “شهادة الدكتوراه”، “الدال” الذهبية، الحَسب والنسب المتقدم في المرتبة والقيمة على نسب القبيلة وحَسَبها، “الصخرة المقدسة” الجديدة!
بصرف النظر عن جدل المصداقية والموثوقية، ألا يبدو الأمر طبيعيًا، ألا يبدو بالنسبة لتاريخ الإنسان أنَّهُ أمرٌ إنسانيٌ بحت؟، وهو أن يبحث المرء عمَّا يُعزز قيمته ومكانته بين الآخرين، فإذا لم يجد لقبًا مُتاحًا، استعان بالمتاح، ألا يُعتبر هذا الطموح مشروعاً؟!
نعم، في رأيي، إنه طموح مشروع، جداً..
لا أتحدث عمَّن قام بتزوير درجته، أتحدث، بالتحديد، عمَّن استعان بجامعة قد لا تتبع منهجية صارمة في التدقيق على الرسائل المُقدمة، هؤلاء، لا يمكن مقارنتهم بمن دفع مقابلاً لنيل درجته؛ فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.
بينما، ما أجده غير طبيعي، وغير انساني بالمعنى الحضاري، أن تبقى الجموع، كما هي، مقيدة أمام كل من يعتلي “الصخرة المقدسة”، ويزداد العجب عندما تتكرس هذه الحالة في جماعة حذَّرها إمامُها وحكيمُها، قبل أربعة عشر قرن، من أن تنزلق للنظر إلى “من قال” بدلاً إلى “ما قيل”!
يؤكد عالم الاجتماع إميـــل دور كـــــايـــم ( 1858 – 1917 ) أن التقديس أمر اجتماعي بحت، وعليه، فإن علاج هذه المسألة لن يتعلق بالأفراد، بل بالمجتمع، فطالما هناك من يُقدس ويُبجل أصحاب الدرجات العالية فستبحث ثلة من الأفراد عن هذه الميزة دون التدقيق والتمحيص في مصدرها، تماماً كمن يبحث عن لقب مُفكر، ومؤرخ، وكاتب، وشاعر، وفنان، واعلامي… وناشط اجتماعي!
لنلتفت إلى المجتمع..
في مجتمعنا الصغير، هنا في القطيف، كما ينسحب هذا الوصف على بقية المجتمعات الشيعية المجاورة، تشكَّلت حالة الانبهار من “الدال” المجاورة للقب “الشيخ” بفضل شخصيتين بارزتين، هما: الشيخ أحمد الوائلي والشيخ عبدالهادي الفضلي. كلاهما حقق شهرة وموثوقية عاليتين في المجتمع الشيعي؛ كان لصوت الأول قبول منبري كاسح، وكان للثقل الأكاديمي للآخر هيبة لا تُضارع.
إثر ذلك، تبلورت أهمية وقيمة هذا الحرف الذهبي لرجال الدين في المجتمع، فلا يمكن لأي كلمتين من أن يشكلا رنيناً ونغماً في أذن “العامة” أجمل من هاتين الكلمتين: الشيخ الدكتور!
بالنسبة للشيخ، هي مفتاح، هي منبر أعلى، هي مجلس يضم مع العامة جموعًا من المثقفين وذوي التعليم العالي. وسيكتمل بهاء ولمعان المحاضرة بتطعيمها بقليلٍ من أقوال ومرئيات علماء الطبيعة المعاصرين: مقولة هنا، واسم هناك، أو باختيار عنوانٍ لها مستمد أو مرتبط بقضايا العلم الحديثة.
أما بالنسبة للمُستمع، فهي إشارة إلى المعرفة القادرة على وصل الماضي بالحاضر، الديني بالعلمي، إنه صوت جديد ذو صدى خشبي مُرتد من جُدران قاعات الجامعة والمعاهد الحديثة.
لم يكن للعامة، والحال بهذه الكيفية، أن تبحث وأن تتقصى عن مصدر تلك الشهادات. تكفي كلمة “جامعة” فهي كلمة ثقة مأمونة منزهة من أسباب الغش وضعف الرصانة، أو هذا ما تتمناه ضمائرُهم!
أمر آخر، هذه الضمائر المُبجِّلة للدرجة المُقدسة، لأسباب تاريخية، كانت مشحونة بالآخر، مهووسة به، ومهتمة به اهتمام المقاتل بعدوه في ساحة المعركة. تستخدم في حربها ضده كل سلاح: بضعة أسطر من كتاب، بيت من قصيدة، جملة من حديث، حكمة أو مثل؛ فطالما هناك معركة حِجاج فلنحصن مواقعنا بأي شيء حتى ولو بـ “دال”!
كانت الدال لهذه الضمائر البسيطة، المُرابطة على ثغور إيمانها أهمية وقيمة، إنها تلك القلعة المتطورة والمتقدمة والمُحصنة بعلوم العصر ومناهج معرفته، المرتكزة إلى منطق وفلسفة وفكر مؤسساته، إنها سلاح حديث جداً في معركة قديمة، قديمة جداً.
لا يمكن والمحارب بهذه الحالة أن يتخلى عن مُكتسباته من أجل كلمات ليست ذات ثقل في معركته ككلمتي: مصداقية وموثوقية، وبالأخص في منطقة وزمن كانت المعارك فيه تشتعل بسببٍ وبدون سبب.
وللمرة الثانية، أرى أنه تصرف شعبي يمكن فهمه، جداً..
بعد ذلك، ما الحل؟
بالنسبة لحاملي درجة الدكتوراه، سواء من المشايخ ومن غيرهم، عليهم أن يجدوا سُبلاً أجدى للتواجد بيننا، سُبلاً نافعة ومثمرة، بدلاً من حشر “دالهم” في كل صغيرة وكبيرة. عليهم أن ينفعونا بقدر تقديرنا واحترامنا لهم. فمازالت مجتمعاتنا تعاني الويلات من أمراضها، وتقاسي حدَّ الموت من عللها، حديثها وقديمها. عليهم بكل بساطة التركيز على بحوثهم، وتكريس أنفسهم في ابتكار حلول لمشكلاتنا، كي نتمكن، على أقل تقدير، من أن نرفع أقدامنا للخطو على مسار الحضارة كغيرنا من الأمم.
أما بالنسبة للناس، فلا حلَّ بدون وعي! على المجتمع أن يهجر صخوره المقدسة، عليه أن يلتف حول الأشجار المثمرة، والينابيع الفياضة بدلاً من صخوره العتيقة، عليه أن يؤمن بنفسه، يثق بها، ويدعم النافع المثمر فقط، بعدها، سيضطر كلُّ من يعتلي الصخرة أن يكون نافعاً وإلا سيبدو أمام الجموع على أنه “ليس إلا رجلاً عادياً”
مقال جميل فيه الكثير من الحقائق التي قد تكون غائبه عنا فكان من الجميل التذكير بها ، أعتبر المقال منصف لجميع الأطراف شكراً لكاتبه
احسنت اخ مالك في توجيه البوصلة نحو حاجة مجتمعنا لكل فرد متعلم. مجتمعنا يعاني امراض اجتماعية، بعضها خطير على مستقبل اولادنا. وهذه الامراض بحاجة لتشخيص علمي. وفي اعتقادي ان لدى رجال الدين، ذوي الاجتهادات العلية (شهادات) (والوحدات) عندهم الادوات في البحث وإيجاد الحلول. ومن ثم التوعية. توعية تعمل من صمن استراتيجيه مدروسة، لاتوعية روتينية.