رائحة “المحموص” لن تغيب عن عاشوراء القطيف.. رغم “كورونا” وجبة ارتبطت تاريخياً بالأفراح والأحزان.. واقتصرت الآن على أيام محرم
القطيف: ليلى العوامي
منذ اليوم الأول من شهر محرم وحتى نهاية صفر من كل عام، لا تكاد تمر في شارع من شوارع محافظة القطيف، حتى تدهم أنفك رائحة البصل المحموص، فمئات الحسينيات والمآتم والمضائف منهمكة في إعداد وجبة المحموص التي اشتهرت بها قرى القطيف ومدنها وبلداتها، ضمن إحياء مراسم عاشوراء، وإن كانت هذه الوجبة حاضرة على استحياء في مجتمعات أخرى قريبة، مثل الأحساء والبحرين.
يتشارك في طبخ هذه الوجبة الرجال والنساء، الشباب والصغار، تطوعاً خلال أيام عاشوراء، ويتولون توزيعها على “المُستمعة”، وأيضاً يطوفون بالصحون لتقديمها “بركة” لأصحاب المنازل.
يعتمد المحموص على تحميص البصل إلى درجة تقترب من الاسوداد، ثم يضاف إليه الماء والبهارات والإدام (اللحم أو الدجاج أو السمك أو الروبيان)، ولاحقاً يُضاف الأرز، ويترك حتى يمتص الماء، بنفس طريقة إعداد الكبسة تقريباً.
في ظل “كورونا”
لكن هذه الوجبة التي عرفها الأهالي قبل عشرات السنين، تواجه تحدياً حقيقياً هذا العام، أنه “جائحة كورونا”، التي حلت على العالم بأسره، فارضة قيود التباعد الاجتماعي.
مع ذلك يصر قائمون على حسينيات ومآتم ومضائف على استحضار “المحموص” في عاشوراء هذا العام، بعد تكييف أوضاعهم مع ما فرضته الجائحة من قيود واحترازات واشتراطات.
الحاجة طيبة، التي اعتادت طبخ “المحموص” سنوياً في الحسينيات، تقول “إذا مد الله في عمري؛ سأطبخ حتى لو لأولادي فقط”، وهو ما أكده أصحاب مضائف. فيما رأى آخرون، وهم قلة، عدم الطبخ هذا العام، “في انتظار حصول الفرج” في الأيام المقبلة.
كثير من الحسينيات استعدت لموسم محرم منذ نهاية فترة الحجر، وإن وضعوا إجراءات “صارمة” تضمن سلامتهم وصحة المُستمعين، فالبعض اشترط على الطباخين وجود ما يثبت خلوهم من الإصابة (تقرير طبي).
أحفاد يتوارثون الإطعام
اعتاد مضيف أم عبدالرسول شهاب في القديح، طبخ “المحموص” وتوزيعه على المنازل، فضلاً عن من يأتي إلى المضيف ويأخذ البركة، بمعدل لا يقل عن 1000 وجبة يومياً.
بدء المضيف هذه العادة منذ أكثر من نصف قرن، على يد الجدة أم عبدالرسول، التي يصفها أحفادها بأنها “شغوفة بحب محمد وآله الطيبين الطاهرين”، وتوارثوا منها المضيف.
لكن حفيدتها بدرية عبدالرسول شهاب تقول “حتى هذه اللحظة لم نحسم موضوع الطبخ والتوزيع في ظل هذه الجائحة وما يترتب عليها”، معتبرة “المحموص”، “من المورثات الجميلة في محرم، ولا نشعر بقدوم الشهر إلا إذا شممنا رائحة تحميص البصل”.
ولأن هذا المحرم “استثنائي”؛ تضيف شهاب “سيكون الطبخ في نطاق ضيق، مع الأخذ بالاحترازات، وسيقتصر على الأسرة”، مستدركة “لا يسهل على صاحب المجلس أو المُضيف أن يتوقف عن إطعام مُعزي السيدة الزهراء عليها السلام، ولكن نرجو من الله أن يرفع عنا هذا الوباء، ونعود للطبخ والتوزيع كعادتنا كل عام”.
توزيع لأعداد محدودة
على رغم تنقل مضيف الإمام الحسين عليه السلام من قلعة القطيف إلى المنطقة الخامسة، إلا انه حافظ طوال أكثر من نصف قرن على تقديم “المحموص” في كل عام. تقول زكية القطري عن هذا العام “سنواصل الطبخ هذا العام، وسيكون هناك توزيع، ولكن ضمن احترازات معينة، فالتوزيع سيكون لأعداد محدودة، وليس مثل كل سنة؛ الكل يأتي لأخذ البركة” .
تردد في التوزيع
تقيم أم محمد البشراوي مأتم باب المراد في منزلها بحي الناصرة، منذ أكثر من 18 سنة، وكان توزيع البركة يقتصر على المُستمعات، ومع ازدياد عدد السكان في المنطقة افتتحوا مضيفاً في النهار، يقتصر على التوزيع، إضافة إلى التوصيل إلى ما بين 65 إلى 80 منزلاً.
تقول البشراوي “ليس من السهل علينا ترك توزيع البركة، لكننا سنعود بحذر في ظل هذه الجائحة، وقد اقترح خدام المضيف أن يكون التوزيع في وجبات جاهزة، ونتشدد في تطبيق الاحترازات على الخُدّام، خصوصاً لبس الكمام والقفاز، واستبدالهما متى ما استدعت الحاجة، لضمان السلامة. والبعض الآخر فضلّ أن يأتي كل شخص بصحنه لأخد البركة، لكن إلى الآن لم يتم اتخاد أي قرار”.
“محموص بيت ابليس”
مأتم خادمة الحسين أم محمد سعيد ابليس (المحاسنة) زينب إبراهيم مكي آل الشيخ، في حي الفسيل بتاروت، تأسس قبل 40 سنة، ويوزع “المحموص” ليس على الأهل والجيران فقط، بل لجميع المستمعين، واشتهر المُضيف بـ”محموص بيت ابليس”، ويتميز بأن لونه أسود وحار المذاق. ويطبخ في اليوم بمعدل قدرين، بما يراوح بين 35 إلى 40 كيلوغراماً من الأرز إذا كان للتوزيع، أما إذا كان للتوزيع ولمجلس الليل؛ فأربعة قدور، كل واحد يتسع لـ40 كيلوغراماً.
وتصف زوجة أبن أم محمد، رقية أوال ترك الطبخ والتوزيع بـ”الكارثة”، تقول “سنستمر على تقديم ما تعودنا عليه كل عام، مع تطبيق الاحترازات، فوالدة زوجي (حفظها الله)، تعبت كثيراً في شهر رجب مع بداية الجائحة، لما أخبرناها بتوقف القراءة احترازاً في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، وفي وفاة الإمام علي عليه السلام، كان عزيزاً علينا إقفال باب المأتم، ولكن الشباب تولوا توزيع البركة، وها هي الآن تشتري الكمامات والقفازات والمعقمات، استعداداً لشهر محرم”.في الأفراح والأتراح
بدوره، يذكر الباحث في الفلكلور الشعبي عبدالرسول الغريافي، أن “المحموص” في القطيف ارتبط بمناسبتين، الأولى وفيات أهل البيت عليهم السلام، والثانية في ضيافة الزواج، حيث كانت الضيفة في وجبات العشاء ليلاً فقط، وليست في الغذاء نهاراً، كما كانت هناك طبختان رئيسيتان في كلا المناسبتين، هما المحموص والبحاري.
ويذكر الغريافي، أن المحموص معروف منذ القدم في كل من القطيف والبحرين، وأحياناً تكون له مسميات مختلفة، ففي بعض مناطق القطيف يُعرف بـ”المبزر”.
عصر الجريش
يعيد الباحث الغريافي، “المحموص” في القطيف إلى عصر الجريش، لافتاً إلى أنه لم يكن مقتصراً على الأرز فقط، إذ أن هناك الكثير من أرباب المآتم كانوا يطبخون الجريش بنفس طريقة المحموص (جريش محموص) قبل طبخ الأرز (العيش المحموص)، وذلك حين كانت الوجبة السائدة في الجزيرة العربية هي الجريش، لتوفر حبوبه أكثر من الأرز آنذاك، فكان أغلب اعتماد أهالي القطيف في حصولهم على الأرز في البداية على ما تنتجه الأرض القطيفية منه، وهو الأرز الأحمر المعروف بـ”الهندية”.
ويشير إلى أن “المحموص” الحالي مرتبط بالأرز الأحمر (الهندية)، فمنه أهتدى أهالي القطيف إلى فكرة طبخ المحموص، إذ أن إضافة البصل إليه يزيد من شدة درجة احمرار لونه. ويقول “بعدما أصبح استيراد الأرز الهندي الأبيض بأنواعه متيسراً وبوفرة؛ أهمل الناس زراعة الأحمر، وفي الوقت ذاته فقدوا مزيته ولونه الأحمر، فحاولوا تعويض ذلك بإضافة كميات أكبر من البصل مع زيادة تحميصه، كي يصلوا إلى أعلى درجة من اللون الأحمر، فجاء المحموص، لذا فإن العلاقة بين طبخ العيش المحموص والعيش الأحمر وطيدة”.
خمسة أنواع
يضيف الغريافي، أن “التنافس في طبخ المحموص بين أهالي القطيف مستمر، وبأنواعه الخمسة: اللحم، الدجاج، السمك والربيان، وكذلك الربيان المموش (المخلوط بالماش أو العدس)”.
ويشير إلى أن لـ”المحموص” طباخين ماهرين متخصصين، يظهرون بين آونة وأخرى، فيزداد الطلب عليهم في أيام عاشوراء، وفي مناسبات الزواج، وليس كما هو حاصل الآن، بعدما اتقنه الكثير بفضل ممارسة طبخه، ولهذا السبب كان الناس بين فترة وأخرى ينسبون أصل “المحموص” للمنطقة التي تجيد طبخه وتتفنن فيه، كلما اشتهرت تلك المنطقة بطبخه وازدهر انتشاره فيها.