لم يكن كارها لذاته رغم تغربه..!

محمد رضا نصرالله

يقول بيل أشكروفت وبال أهلواليا في كتابهما “إدوارد سعيد.. مفارقة الهوية” بأنه أحد أبرز من فسروا نظرية ما بعد البنيوية للشعب الأمريكي، من واقع اهتمامه بالأثرالسياسي للكتابة،  فبينما يوافق سعيد على أننا ينبغي أن نقاوم الفرضية التي ترى أن النص محدد بالكتاب، يذهب بعيداً ليقول إنك حين تعالج الأدب بوصفه بنية جامدة، كما يفعل غلاة الحداثة من الألسنيبن والتفكيكيين (الذي اتهم تنظيراتهم في كتابه أدب المنفى بالرطانة) فمعنى هذا أنك ستفقد حقيقة مفادها أن النص (فعل) للتموضع في العالم.

أعتقد أن هذا التقييم النقدي لخطاب إدوارد سعيد، يختصر تجربته الإنسانية والفكرية،  فلسطينياً مهجراً، عاش في مصر أواخر زفراتها الليبرالية، متتلمذاً على أيدي المدرسين الأجانب، في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم طالباً في كليات أمريكية شهيرة، متخصصاً في دراسة الأدب الإنجليزي، حيث أصبح أستاذه الأبرز في جامعة كولومبيا النيويوركية، منفتحاً على كافة تيارات النقد وفعاليات الثقافة المتجددة في العالم.

إلا أن سعيداً لم يُعرف على نطاق واسع، إلا بعدما فجر قنبلته الأكاديمية في كتابه الشهير “الاستشراق” محاولاً محاكمة المستشرقين الذين قاموا بصناعة صورة نمطية مقلوبة -بتعمد- عن الشرق العربي الإسلامي.. مؤسساً نظريته في الخطاب الكولونيالي، فاضحاً علاقة السلطة بالمعرفة عبر النزوع الاستعماري، ومطوراً أطروحاته حول الأثر الثقافي للغزو الأوروبي على المجتمعات المستعمَرة – بفتح الميم – في نظريته ما بعد الكولونيالية، ذلك أن الصراع بين الامبريالية والمجتمعات المهيمن عليها، لا يزال مستمراً إلى الوقت الحاضر، حيث يعاني شعب إدوارد سعيد من أبشع استعماراستيطاني، أفرزته ثقافة الاستعمار الأوروبي، متمثلاً في وعد بلفور البريطاني لليهود، بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين سنة 1917م.

ارتباط سعيد بقضية شعبه، هي التي جعلته يثور على المواضعات النظرية، فيفيد من الإجراءات النقدية المتجددة، ما يتسق وموقفه، حيث يريد أن يكون (نصه) الثقافي فعلاً متموضعاً في العالم، من هنا تأتي كونية إدوارد سعيد ووطنيته في آن، وهو يحاور أعداءه الصهاينة والمستعمرين، في الأوساط الأكاديمية والإعلامية في أمريكا وأوروبا؛ على أنه ارتبط بصداقات إنسانية مع مبدعين يهود، مدافعاً حتى عن حق اليهود في العيش بسلام مع الفلسطينيين على أرض آبائه وأجداده. وفي طليعتهم صديقه الموسيقار اليهودي الألماني دانيال بير غارنباوم.

لكنه كان أبرز من انتقد حكومة السلطة الفلسطينية على قبولها اتفاق أوسلو المهلهل سنة 1993م، محتجاً قبل ذلك بعام على سياسة استفراد رئيسها الراحل ياسر عرفات بالسلطة،  كما أنه كان دائم النقد لأداء البيت الفلسطيني.

وفي بداية الثمانينات أثناء محاصرة الفلسطينيين في لبنان وتشتيتهم في المنافي، إثر اجتياح القوات الإسرائيلية ووصولها إلى أعماق بيروت، كان الوجه الفلسطيني الذي توجهت إليه أنظار الأمريكيين، في إدارة ريغان للقيام بدور ما.

لكنه لم يكن بعيداً قط عن معاناة شعبه، وهموم مجتمعات العرب والمسلمين، رغم ما حازه من مكانة عالمية، قدمته كأحد أبرز مفكري الأدب العالميين في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وأحد أبرز المعلقين الجادين في وسائل الإعلام حول قضايا فلسطين والعرب أجمعين، بنبرة نقدية صارخة، جعلته معرضاً للاتهام بالشعبوية، ما همه ذلك قط، بل إننا وجدناه بعد دحر القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني، يذهب إلى هناك مصطفاً مع الزوار العرب، عند البوابة الحدودية مع اسرائيل، ليرمي حجراً رمزياً على العدو، الذي اقتلعه من أرضه، وسرق بيت أسرته، وشرّده في المنافي.. ومنتصراً على مرضه اللعين، بقي صوتاً جهورياً حتى آخر رمق، صادعاً بنصه النقدي، وهو يتموضع خارج التنظيرات الفارغة، متميزاً بشخصية فلسطينية فاعلة في العالم، لقد استحق احترامه حتى بعد رحيله، بينما كان متضايقاً من تسميته بإدوارد، تيمناً باسم الملك البريطاني، ثائراً من داخل النسق الثقافي الغربي، على كل محاولة ظالمة لتشويه صورة المسلمين، وهو المسيحي، ومنتهكة حقوق مواطنيه الفلسطينيين.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×