حديث المؤاخاة “وآخيتك في الله ..”
الشيخ علي الفرج
إنّ حادثة تنصيب أمير المؤمنين (ع) عند غدير خم بعد الانتهاء من مناسك الحج من المرويات المتواترة والمؤكدة عند جميع المسلمين. ويعدّ حديث الغدير من أعلى الأحاديث المشتركة بين الفريقين من حيث مستوى الوثاقة. ولأنّ هذه الحادثة تعدّ من الدلائل المهمّة على أحقّية الإمام علي (ع) في الإمامة بعد رسول الله (ص) عند الشيعة، ولرمزية ومكانة هذه الحادثة، تحتفل المجتمعات الموالية بهذه المناسبة كلّ عام، ويلتزمون فيها أداء مجموعة من الأعمال المستحبة، كصيام يوم المناسبة، وقراءة بعض الزيارات والأدعية الواردة في بعض المصادر.
ومن هذه الأعمال المؤاخاة، حيث ورد بشأنها في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي “ينبغي فيه أن يؤاخي المؤمن أخاه، وهي على ما رواه شيخنا في مستدرك الوسائل عن كتاب زاد الفردوس بأن يضع يده اليمنى على اليد اليمنى لأخيه المؤمِن، ويقول: وَآخَيْتُكَ فِي اللهِ، وَصافَيْتُكَ فِي اللهِ، وَصافَحْتُكَ فِي اللهِ، وَعاهَدْتُ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهُ وَأَنْبِياءَهُ وَالأئِمَّةَ الْمَعْصُومينَ (ع) عَلى أَنّي إِنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالشَّفاعَةِ، وَأُذِنَ لي بِأَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ لا أَدْخُلُها إِلَّا وَأَنْتَ مَعي. ثمّ يقول أخوهُ المؤمن: قَبِلْتُ. ثمّ يقُول: أَسْقَطْتُ عَنْكَ جَميعَ حُقُوقِ الأُخُوَّةِ ما خَلاَ الشَّفاعَةَ وَالدُّعَاءَ وَالزِّيارَةَ».
وقد وردت هذه الصيغة للمؤاخاة في مصادر أقدم من مفاتيح الجنان، ولعلّ أقدم كتاب ذكر عقد المؤاخاة كتاب (خلاصة الأذكار) للفيض الكاشاني (ت 1007هـ)، ص 315، إذ ورد بهذه الصيغة: «آخَيْتُكَ فِي اللهِ، وَصافَيْتُكَ فِي اللهِ، وَصافَحْتُكَ فِي اللهِ، وَعاهَدْتُ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَنْبِياءَهُ وَرُسُلَهُ وَالأئِمَّةَ الْمَعْصُومينَ (ع) عَلى أَنّي إِنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالشَّفاعَةِ وَأُذِنَ لي بِأَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ لا أَدْخُلُها إِلاّ وَأَنْتَ مَعي. وليقبل القابل بما يدل على القبول أو لموكّله، ثم ليساقطا عنهما جميع حقوق الأخوّة ما سوى الدّعاء والزّيارة، خوفًا من عدم التمكن من الإتيان بهما».
وقد رواه المحدّث النوري (1320ﻫ) في (مستدرك الوسائل) ٦/ ٢٧8 عن كتاب زاد الفردوس، كما ذكر الشيخ القمي في مفاتيحه، وذلك عن «الأميرزا عبد الله الأصفهاني [من أعلام القرن الثاني عشر الهجري] في رياض العلماء: في ترجمة السيد الجليل أبي المكارم حسن بن شدقم المدني، ذكر صورة إجازة العالم الجليل الشيخ نعمة الله بن خاتون العاملي له، وفيها: وبعد فإن السيد الجليل النبيل الإمام الرئيس، وساق مدائحه وفضائله ونسبه، والدعاء له [إلى أن قال:] وفق الله محبّه وداعيه، نعمة الله بن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن خاتون العاملي، لزيارة بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيّه والأئمة من ولده، عليه وعليهم الصلاة والسلام، فاتفق له إدراك الاجتماع بحضرته السنيّة وسدّته العلية، وكان ذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام، في حدود سنة سبع وسبعين وتسع مئة، على مشرفها الصلاة والسلام، وعقد بيني وبينه الإِخاء في ذلك اليوم المبارك، الذي وقع فيه النص من سيد الأنام على الخصوص بالإِخاء في ذلك المقام، وألتمس من الفقير يومئذٍ أن أكتب له شيئًا مما أجازه الأشياخ … إلى آخره.
قلتُ: لم نعثر على النص الذي أشار إليه، ولا على كيفيّة هذا العقد في مؤلّف إلّا في كتاب زاد الفردوس لبعض المتأخرين، قال في ضمن أعمال هذا اليوم المبارك: «وينبغي عقد الأُخوة في هذا اليوم مع الإِخوان، بأن يضع يده اليمنى على يمنى أخيه المؤمن، ويقول: وآخيتك في الله، وصافيتك في الله، وصافحتك في الله، وعاهدت الله وملائكته وكتبه ورسله وأنبياءه والأئمة المعصومين (ع)، على أني إن كنت من أهل الجنة والشفاعة، وأُذِنَ لي بأن أدخل الجنة، لا أدخلها إلّا وأنت معي، فيقول الأخ المؤمن: قبلتُ، فيقول: أسقَطْتُ عنك جميع حقوق الأُخوة، ما خلا الشفاعة والدعاء والزيارة».
وبالمقارنة بين ما أورده الفيض الكاشاني وما رواه صاحب المستدرك(1)، يظهر تقاربهما في صيغة العقد/ الدعاء واختلافهما في بعض الألفاظ. ولكن الصيغتين تظلَّان غير مرويتين عن المعصومين (ع)، وإنما هما صيغتان لدعاء قرأ به بعض العلماء، وتداوله عامّة الناس وانتشر بينهم، ووصل إلى بعض مجاميع الأدعية والزيارات، التي من بينها كتاب (مفاتيح الجنان) للشيخ عباس القمّي. ما أوهم الكثير أنه من الأعمال الواردة بنصّها عن المعصومين (ع).
بعض الملاحظات على حديث المؤاخاة:
لكون الدعاء الوارد في المؤاخاة نصًّا بشريًّا ولم يروَ عن المعصوم، فقد ترد عليه بعض الملاحظات، شأنه شأن أي نصّ بشري. ومنها: ١- ما تفيده النصوص الشرعية، قرآنًا وسنة صحيحة أن دخول الجنة مرتبط بإيمان الإنسان وعمله الصالح، يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [سورة غافر، الآية: 40]. وهذا ما يتعارض مع مضمون عقد المؤاخاة الذي يعلّق فيه المؤاخي دخوله الجنة على دخول الذي يؤاخيه. والمعارضة تتحقّق في حال لم يكن الذي يقبل المؤاخاة مستحقًّا لدخول الجنّة، عندما لا يكون عمله صالحًا.
٢- ما ذُكِرَ في عقد المؤاخاة من اشتراط دخول الجنة مع أخيه لا يوجد ما يؤيّده من أدلّة شرعية، ولعل الأفضل في هذه المناسبة العظيمة المصافحة والتهنئة والدعاء لبعضهم بعضًا بالعمل الصالح، فهذا هو المنجي يوم القيامة.
3- قد يُوجَّه مضمون عقد المؤاخاة بأنه نوعٌ من الشفاعة الواردة في القرآن الكريم والروايات المتواترة. ويمكن مناقشة ذلك بأن الشفاعة يعطيها الله سبحانه لخاصّة من عباده المؤمنين، ولا يظهر من عقد المؤاخاة المذكور اعتناؤه بهذه النقطة، ذلك أنه عقد/ دعاء يدعو به أيٌّ من المؤمنين لأيٍّ من المؤمنين. ويضاف إلى ذلك أن مفهوم الشفاعة التي تعرضها بعض النصوص تفيد بأن الشفيع يطلب من الله تعالى أن يغفر لمن يشفع له، وبعد ذلك قد يقبل الله تعالى هذه الشفاعة وقد يرفضها.
أما ما نحن بصدده، فهو عقد، الذي يختزن مفهوم الإلزام، فعندما يتعاقد المؤمنان في الدنيا بألَّا يدخل أحدهما الجنّة إلَّا مع دخول الآخر، فهذا نوعٌ من الإلزام الذي لا يقبل الرفض. والله سبحانه وتعالى لم يلزم نفسه بمثل هذا الالتزام.
4- هناك مجموعة من الآيات الكريمة التي تصوّر انشغال الإنسان يوم القيامة بنفسه وأنه ﴿لَا يَسْأل حميمٌ حميمًا﴾، وأنه إذا وقعت الواقعة وجاء يوم القيامة، فهو يومٌ ﴿يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾، وهذه صور تعرضها الآيات القرآنية لتبيّن مدى أهمية الإيمان والعمل الصالح في المصير الأخروي لأي إنسان.
لذا من الجميل أن يتماهى الإنسان في سلوكياته، وبخاصّة ما يرتبط بالجانب الديني والأخروي بما تؤسّس له الآيات القرآنية الكريمة، لأن ذلك من شأنه أن يؤثّر في شخصيته وأن يبنيها البناء السليم. وأن ينشأ الإنسان المسلم على هدى الآيات القرآنية التي هي نصٌّ إلهي تهدي إلى صراط مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ حسين النوري صاحب المستدرك يرويه عن كتاب (زاد الفردوس)، وهو مصدر مجهول المؤلّف، ولم نقف عليه لتوثيق ما رواه الشيخ النوري.