[1] هل مازلتَ مصاباً بالرّهاب الثّقافي..؟ وصفة من روسا كاباركاس
محمد الماجد
حينما نقدّم ـ كنخب مثقفة ـ آراءنا على أنها آراء نهائية، نكون قد أشعلنا عوداً من الكبريت، وعندما نصر عليها يتحول العود إلى أصبع ديناميت، أما حينما يتلقف القارئ هذه الآراء كنبوءة، فلن يكون هناك جحيم يحلم به الشيطان لأتباعه أوسع من هذا الجحيم.
لا أتحدث هنا عن أناجيل مقدسة، ولا عن تلك الخُطَب الكسولة، الخُطَب التي تصحو مع الأذان وتنام معه، ولا حتى عن شرف الوقوف أمام الأناشيد الأمميّة، إنما أتحدث عن أزمتنا كمثقفين، عن مواهبنا الكوزموبوليتانيه، عن براعتنا في جمع الأناجيل إلى الخُطَب إلى الأناشيد الأممية ثم القيام بتغليفها وترويجها على أنها عمل ثقافي ناجز، الأمر الذي لا يعدو كونه تدويراً لمفاهيم التابو القديم في مَكَنة من صنع آلهة تسمّى الحداثة، تلك الآلهة المسكينة التي عليها من الآن أن ترعى إلى جانبنا أسلافاً من التابوهات والخُطَب والأناشيد، ويبقى السؤال: كيف لنا أن نهدأ قليلاً، أن نفكر بعمق، وأهم من ذلك: كيف لنا أن نكفَّ أجسادنا عن أن تكون بوابات للخلاص الأبدي. نحن عاديون، حسناً، وعاديون جداً أيضاً، وعلينا أن نتعلم فضيلة التواضع، وأن نكرر دائماً جملة أننا لا نحمل أي عداء أو ضغينة تجاه أحد، وبالتأكيد ليس باتجاه الحقيقة.
تلك الحقيقة التي وضعها ماركيز يوماً على لسان روسا كاباركاس، مديرة الحانة التي لم تخذله عندما أسند لها دور الاطفائيّة المكلّفة بإخماد غابات من الحرائق راحت تلتهم الحطَبَ المتبقي من غريزة بطل روايته العجوز، ولكن دور الاطفائية هذا، لم يمنع روسا من أن تشعل حريقاً آخر، أن تعرّي خوفَ ذلك العجوز (المثقّف) من الأكروبوليس الثقافي في الخارج، في الورقة الخامسة والعشرين من رواية ماركيز (ذاكرة غانياتي الحزينات) كان من المخطّط أن يقوم العجوز بتمرير اعتراف سريع، ولكنه لافت للغاية، الورقة المخمورة هذه، وهي بالمناسبة الورقة الأشدّ صُفْرةً من بين أوراق الرّواية التي زادت على المائة بقليل، هذه الورقة دخلت حانة روسا بقصد تسلية العجوز والترويح عنه، ولكنها خرجت ممهورة بفضيحة صادمه “الغرفة الوحيدة المشغولة كانت نصف مضاءة، وتونيا الزنجية تغني من المذياع أغنية غراميات خبيثة. استنشقت روسا كاباركاس الهواء وقالت: ألحان البوليرو هي الحياة. وكنت متّفقاً معها في الرأي، ولكنني لم أتجرأ على كتابة ذلك حتى اليوم” يقول بطل رواية ماركيز، الصحفي التسعيني، والناقد الموسيقي البارع، والخائف في آن، الخائف من القول بأن ما سمعه من تونيا يمثّل المعنى الأكثر تعبيراً عن الحياة، أكثر حتى من النصوص الموسيقية التي أدمن الاستماع إليها في صالونات النُّخَب وأمسيات الكونشرتو الحالمة.
حسناً، يبدو أن ماركيز لم يعرف كيف يلقّن بطله التسعيني طريقةً للخروج من مطب روسا ذاك، دون أن يجرحَ التزامها الفطري بقول الحقيقة، أو أن يبعث بأيّ إشارة من شأنها تعكير مزاج الحانة، لم يكن من الحصافة أن يفعل ذلك، أولاً لأنه يريد أن يحافظ على ما تبقى من حطب في رصيد ذلك العجوز لدى روسا، وثانياً لأن العجوز – وهذا هو الأهم – كانا متّفقاً مع روسا في الرأي، ولكن ماذا لو أن ماركيز قرر أن يمنحنا نحن – حاملي أختام آلهة الحداثة – دَوراً ولو ثانويّاً إلى جانب دور الإطفائية روسا، ماذا لو قدّم لنا دعوةً تسمح لعجوزه أن يصحبنا معه إلى الحانة، لنتصور فقط مدى الخراب الذي سوف نحدثه كمثقفين: أولاً سنقترح على روسا أن تستبدل اسم (الحانة) بــــــــ (المقهى)، ومع الاحتفاظ بنشاط الحانة لا أدري كيف ستمر هذه الحيلة الفاقعة على روسا، خاصة وأننا لم نقدم لها أي وسائط لغوية أو تاريخية تبرر لنا تغيير المسمّى سوى حديثنا معها عن (الانتقاء الطبيعي) و (البقاء للأقوى)، الأمر الذي لا تهتم له روسا كثيراً، ببساطة لأنها تعمل وفق هذين المبدأين ضمناً وطيلة الوقت دون أن تعلم بأن لهما أتباع في الخارج، ومع هذا سنصر على أن تلبّي روسا رغبتنا، وعندما تفعل ذلك، وهي لن تفعل بالتأكيد، سنطلب منها أن تستبدل صوت تونيا الزنجيّة بإسطوانة لشوبان، وعندما تفعل، وهي لن تفعل بالتأكيد، سنطلب منها ما هو أصعب: أن لا تكون روسا نفسها موجودة لاستقبالنا في المرات القادمة، ربما استبدلناها بإحدى واجهات الحركة النسوية الشابة، أو بمن هو أخف وطأة: اليف شفق أو أحلام مستغانمي مثلاً، فرضوى عاشور أو غادة السّمان تبدوان كبيرتين على لعب هذا الدور المركّب من وجهة نظرنا!، وهنا نصل إلى واحدة من أهمّ مآثرنا: المهارة في التّصنيف، في تحديد من يصلح ومن لا يصلح للقيام بالمهام الثقافية شعراً، وسرداً، ونقداً، وتنظيراً ..الخ.
في الواقع، بالإضافة إلى أننا لم نبد أي اهتمام برأي روسا في الحان البوليرو، فإن ما فعلناه للتوّ بحانتها هو طمس متعمد للهويّات، استخدام للمصطلحات اللغوية بشكل مسيء وفارغ، وأيضاً .. نَصْب واجهات مزيّفة لتمويه الطريق إلى الحقيقة، ومع هذا سيبدو كل هذا الخراب الذي أحدثناه بسيطاً قياساً على قدرتنا الفعلية على الإيذاء، فنحن ومع كل صباح، وبعد حصص تدريبية باردة ومكثفة، ما زلنا نداوم على أخذ الثقافة إلى سيرك وألعاب أكروباتيه أكثر برودة من حصصنا التدريبية، ونصر أكثر من أي وقت مضى على حبسها في كولاج ومنحوتات من المواعظ المعلّبة والكلام الآسن، نفعل ذلك عوضاً عن دفعها عاريةً في أحضان الطبيعة، لتحاول ركوب الدرّاجة الهوائية كما الآخرين، لتتسكع في الطرقات، وتتفقّد بيوت الصفيح متى أرادت.
لا ينبغي من الآن فصاعداً أن تكون هوايتنا الوحيدة هي الأكروبات وحضور الألعاب النارية في الليالي المقمرة، علينا انتظار الليالي الأشد حِلكةً دائما، وتحيّن مواعيد مرور النيازك، ومحاولة اصطيادها
…..
حسناً
هناك أمر يشغلني أكثر من أناشيدنا الأمميّة وخطبنا الكسولة
- هل شرحتُ وصفتَكِ كما ينبغي روسا؟
- لا يبدو أنك بحاجة لأي زيادة أو تنقيح، وهذا هو انطباع تونيا أيضاً
- شكرا لكِ روسا
الحلقات القادمة صباح كل يوم أحد
الكاتب والشاعر المتألق محمد الماجد اضافه جميلة والى مزيد من التألق الى القامة والقيمة الأدبية محمد الماجد