[وثائق] صكوك المبايعات في القطيف.. مادة أدبية وتاريخية ثرية
صكوك الأوقاف والمبايعات والوصايا
أهميتها الأدبية والتاريخية
قراءة في مبايعة أرض دكان الشيخ ناصر بن نصر الله
عدنان السيد محمد العوامي
مدخل
سأكرر نفسي، وأعيد ما سبق أن كتبته قبل خمسة وعشرين عامًا، حول الوثائق وأهميتها، لما تضيفه من مادةً بالغةَ الأهمِيَّة لكتابة التاريخ، ولعل أهمها تلك التي لم يُقصد بتدوينها التاريخ لذاته، ولكن قد تحتوي نصوصًا ذات علاقة بالتاريخ، فقد تقدِّمُ إضافةً تاريخية مهمة، أو تصحح خطَأً، أو تكشف غامضًا، وأعني، بتلك الوثائق، الرسائل والصكوك والعقود وما شابه ذلك من المدونات التي لم يكتبها مؤرخ، ولم تكتب بقصد التأريخ لحادث من الحوادث. إنَّ أهمية هذا النوع من المصادر تُعزى إلى واقعيتها، وبراءتها من المقاصد والأغراض التي ربما شابت غيرها من مدونَّات التاريخ كالتحريف، والتزييف والوضع، مما يقترفه بعض المؤرخين لمنفعة أو هوىً، أو غرض في النفس.
فوقفية بستان “زدادن” في جزيرة تاروت – مثلاً – كشفت لنا أن منطقة القرين الواقعة بين سيهات والجش، كانت عامرة، ورأيناها بلقعًا في زماننا، ثم عادت الآن مأهولة، وأرتنا – كذلك – أنَّ القطيف كانت تابعة لمملكة هرمز، وأن الحاكم آنذاك يطلق عليه لقب الوزير، واسمه خواجا عبد الغفور بن عبد الرحيم([1]).
وثيقة صدقات عز الدين أبي السعود، كشفت لنا حِقبة غائبة من تاريخ القطيف، وأكدت ما قاله الشيخ علي البلادي عن اختفاء أسر آل الصنديد؛ بسبب صدامها مع الأتراك([2])، وهذا ما قلت: (ولعل هذه المناسبة فرصة كنت أنتظرها للحديث عما في وثيقة الشيخ عز الدين ابن أبي السعود هذه من فائدة للمؤرخ، فقد تضمنت في أعلى حاشيتها اليمنى إمضاء أحد أعلام القطيف واسمه السيد إبراهيم ابن السيد يحيى بن السيد أحمد بن السيد محمد الصنديد، وظهور اسم هذه الشخصية في وثيقة ليس بذي قيمة في ذاته، إذا أخذ مجردًا، لكنه في جانب آخر يعدُّ نصًّا موثِّقًا لما في كتاب أنوار البدرين عن قصة اختفاء أسرة آل الصنديد من القطيف.
فآل الصنديد -كما يذكر صاحب أنوار البدرين- سادة أشراف من الأسر العلمية القيادية في القطيف، لكنَّ ألَقَها – بكل أسف- اختفى من مسرح الحياة في غمرة الصراع الوطني إبَّان الاحتلال العثماني، ولم يحفظ لنا التاريخ شيئًا من أخبارها، فضلًا عن آثارها، فباستثناء الشيخ علي البلادي في أنوار البدرين. لم أجد ذكرًا لأي شخصية من أعلامها عند أيٍّ من المؤرخين أو كتَّاب السير)([3]).
وأثناء قيامي بترجمة يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية من القطيف في الخليج إلى ينبع في البحر الأحمر، خلال عام 1891م، تأليف النقيب جورج فورستر سادلير، توقفت عند تسميته لقرية التوبي: (Ches – il- Tobe)، وقرية البحاري: ((Ches – il – Bari([4]).
ولأن بلدة التوبي كما قال شاعر قديم:
بلادٌ بها نيطت عليَّ تمائمي
وأوَّل أرضٍ مسَّ جسمي ترابها
فلا أحتاج لمن يبصرني بها؛ لذلك علقت واثقًا بأنه خطأ من المترجم المصاحب لسادلير، وكانت بحوزتي صورتان مطموستان بغلبة السواد عليهما لرداءة التصوير الفوتوساستي فلم أعبأ بهما وبقيتا في الأضبارة، دون أن أعرف فحواهما، وذات يوم صممت أن أفك مغاليقهما، فدققت فيهما مليًّا مستعينًا بالمكبرة، فكانت المفاجأة أنهما لبستاني نخيل أحدهما اسمه الطريفة، والآخر اسمه طف العماري، وكان اسم البلدة أوضح ما في الوثيقتين، وتبين أن كلا البستانين في قرية اسمها (جشيش التوبي)، والجشيش في اللغة كما في التاج: (الحَبُّ، حينَ يُدَقُّ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخ، فإذا طُبِخَ فهُوَ جَشِيشَةٌ. والجَشِيشَةُ: ما جُشَّ من بُرّ ونَحْوِه، كالجَشِيشِ، وقِيلَ: الجَشِيشُ: الحَبُّ، حينَ يُدَقُّ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخ، فإذا طُبِخَ فهُوَ جَشِيشَةٌ. قال ابنُ سِيدَه: وهذا فَرْقٌ لَيْسَ بِقَوِيّ، والمُجَشُّ والمِجَشَّةُ: الرَّحَى الَّتِي يُطْحَنُ بها الجَشِيشُ. والجَشِيشُ, والجَشِيشَةُ: وَاحِدُ الجَشِيشِ، وقال شَمِرٌ، الجَشِيشُ: حِنْطَةٌ تُطْحَنُ طَحْناً جَلِيلاً، فتُجْعَلُ في قِدْرٍ، ويُلْقَى فيهَا لَحْمٌ أَو تَمْرٌ فيُطْبَخُ، فهذا الجَشِيشُ، ويُقَالُ لَهَا: دَشِيشَةٌ، بالدال). فهاتان الوثيقتان بينتا لنا كيف كان اسم قرية التوبي، وصواب تسمية سادلير لها، ومثلها البحاري، فقد تكرم عليَّ أخي الأستاذ الباحث نزار عبد الجبار بعدة وثائق أثبِتت فيها بلدة البحاري باسم (جشيش البحاري).
يبقى تعليل تسمية القريتين بهذا الاسم، فهذا نعلمه من وصف سادلير نفسه: (وتعقد خارج بوابة القلعة الجنوبية تعقد سوق كل يوم خميس وتجلب إليه البضائع من اللحم والأرز والتمور والمسك Musk والبطيخ بحجم كبير حوالي خمسة وثلاثين إلى أربعين رطلاً، والحنطة والشعير لا ينتجان بالوفرة التي ينتج بها الأرزُّ، ولهذا الأخير يعزى سوء هواء القطيف).
إذن إضافة جَشِيش إلى اسم التوبي والبحاري قديمًا سببها اشتهارهما بزراعة الرز والحنطة، وهذا أدركته في صغري، وأدركه كل لداتي، أطال أعمار الأحياء منهم.وأعاد لذاكرتي مطلع أغنية لم يبق الزمن منها غيره، كان نسوة التوبي يغنينها أثناء عودتهن بالعروس بعد غسلتها في عين القصير أشهر عيون قرية التوبي:
عين لـﮕـصير يالمسعَّدة
لـﮕـدور تغلي والصواني مسنَّدة
مبايعة أرض دكان الشيخ ابن نصر الله
حين بعثت وثيقة المبايعة إلى صحيفة صُبْرة مرفقة بمقال عن الأديب الأستاذ باقر علي الشماسي، كان قصدي بيان التحولات التي تطرأ على أسماء المواضع، فالسوق التي سماها الصكة، كان اسمها القيصرية([5])حسب الوثيقة.
ذلك كان منتهى مقصدي من إرسالها، فإذا الأستاذ حبيب يستخرج منها الأعراف والمصطلحات الفقهية والقواعد العرفية والقانونية الجارية في زمنها، وهو ما لم يقصده أحد، لا كاتبها، ولا الشهود، ولا القضاة المصادقون عليها، ناهيك عن بائع أرض الدكان، فمع أنه غير نكرة على المهتمين بالتراث والتاريخ الأدبي في القطيف، إلا أنه غير معروف لدى جلَّة شباب الجيل المتلهف لمعرفة تاريخ بلده ومكانتها الحضارية، وإن كان له ترجمة في بعض المصادر، لكنها قديمة، وقد لا تكون متيسرة للجميع، فهذه سانحة يجمل أن أنتهزها لإعادة هذه الشخصية إلى الواجهة.
أول من ترجم له هو الشيخ علي ابن الشيخ حسن البلاد (رحمه الله) في كتابه (أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين)، وعنه أخذ من أخذ، فلنبدأ بمن بدأ، فتحت عنوان: (الشيخ ناصر بن نصر الله) نقرأ: (ومنهم العالم الأسعد الأديب الفاخر، الشيخ ناصر بن أحمد بن محمد بن نصر الله أبو السعود القطيفي، كان – رحمة الله عليه – من العلماء الفضلاء الأدباء، له شعر كثير في مراثي الحسين عليه السلام، وله منظومة في الأصول الخمسة، وهو من المعاصرين، قرأ – رحمه الله تعالى – عليَّ كثيرًا من شعره، توفي (رحمه الله) في سنة 1299هـ وأرخ وفاته بعض الأدباء بقوله: (تبكي المدارس فقد ناصرها)([6]).
وعن الشيخ البلادي نقل السيد جواد شبر في سوانح الأفكار([7]).
وجد له الشيخ علي المرهون قصيدة واحدة في رثاء الحسين عليه السلام، وهذه ترجمته له:
(هو العالم الفاضل الشيخ ناصر بن أحمد بن نصر اللَّه، أبو السعود القطيفي. كان F عالمًا فاضلًا، من العلماء الصلحاء، له شعر كثير في مراثي الامام الحسين C، وله منظومة في الاُصول الخمسة. وآل نصر اللَّه وآل أبي السعود قبيلتان عريقتان في النسب([8]). لهم الزعامة والرئاسة، كما أن منهم الشعراء والاُدباء والعلماء، ومنهم الصلحاء الأتقياء، ومن بينهم المترجَم الشيخ الناصر؛ فقد كان على جانب عظيم من ذلك كله. توفّي F سنة (1299هـ) كما جاء تاريخه في هذه الفقرة: تبكي المدارس فقد ناصرها، وخلَّف وراءه شعرَه الجمّ الذي لم نظفر منه إلّا بهذه القصيدة)، وأثبت القصيدة كاملة، واخترت منها الأبيات التالية:
أرّقنى رِزءٌ لآل المصطفى
حتى لذيد الغمض مقلتي جفا
وأصبح الجسم ضئيلًا نحفًا
كأنه بالقعضبي([9])1 أُرهِفا
أنكرني أخصّ من يألف بي
كأنه بي – أبدًا – ما ألفا
خفيت حتى إنني لست أُرى
وبالوجود في الورى لن أُوصفا
حوادث إلى الجديدين معًا
صيرن حلو العيش مرًّا صرفا
لا سيما مصيبة ابن أحمد
خير بني حوا علًا وشرفا
لم أنسَه يجوب كل فدفد
يشقّ منه صفصفًا فصفصفًا
يؤمّ قومًا لم يعرجوا على
دين ولا الإسلام منهم عرفا
فلم يزل تحمله العيس لهم
يذيقها سيرًا ممضًّا موجفا
حتى أناخ رحله بحيهم
نصيره السيف ورمح ثُقفا
وعزمة دان لها الكون معًا
لن تنصلنّ أبدًا، وتضعفا.
يدعوهُمُ رشدًا فلم ينتفعوا
ولو دعا الجلمودَ ما تخلفا
وأثبت له الشيخ فرج العمران في الأزهار منظومة في الأصول الخمسة عدة أبياتها 190 بيتًا بمقدمة لأحد تلاميذه، نصها: (الحمد لله الذي أبدع الوجود في أحسن إبداع، وأتقن صنع الممكنات، فسبحانه، جل أن تدرك كنه ذاته العقول، فضلاً عن الأبصار، والأسماع، الواحد الأحد القديم، الذي لا أول لديمومته، ولا انقطاع {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضِ جَاعِلِ المْلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}([10])، والصلاة والسلام على محمد وآله، عِلل الكائنات في البدء والاختراع، وبعد: فهذه منظومة في أصول الدين الخمسة، تؤدِّي – بحفظها – لمعرفة الحق واليقين، نظمها ونضدها الشيخ الأستاذ ناصر بن أحمد بن محمد بن نصر الله، طالبًا بذلك ثواب رب العالمين، ورجاء أن ينفع الله بها الجانحين لهذا الباب من إخوانه المؤمنين، إنه خير موفقٍ ومعين…)، أختار منها:
أحمد ربًّا خالقًا للخلقِ
ممدَّهم من جوده بالرزق
ثم وأشرف الصلاة تترى
للمصطفى والأنجبين طُرَّا
وبعدُ، فاعلم أيها الخليلُ
الفاضل المبجَّل النبيل
أول شيءٍ واجبٍ في الحكمة
صمت بفكرٍ جا عن اهل العصمة
يفيدك الدليل للأمور
يدريك بالجليل والحقير
تدري به حدوث هذا العالم
ومحدثًا له بلا توهُّم
إذ البناء لا يقوم أبدا
بدون بانٍ عند أهل الاهتدا
أرضٌ بسيطةٌ بلا ممهِّدِ
ما سطحها إلا بفعل المبتدي
كذا السماءُ لم تقم بنفسها
إلا بتقويم الذي أحدثها
كواكبٌ طوالعٌ غواربُ
بلا مدبر لها؟ عجائب!
شمسٌ مضيئةٌ بغير مبدعِ
هذا لعمري قول كل مدَّعي
ألا ترى الجبال؟ من أرساها؟
والأرض؟ من من تحتها دحاها؟
من صيَّر الليلً ظلامًا مُغسقا؟
من صير النهار ضوءًا مشرقا؟
من صيَّر الإنسانَ من ماءٍ أجِن؟
فصار بعد ذاك ذا خلق حسن
مميِّزًا، مفكِّرًا حليما
مدبِّرًا أمورَه حكيما
ذا رتبة يفارق الحيْوانا
بالعقل أمرٌ ظاهرٌ قد بانا
وأورد الشيخ العمران قصيدة في رثائه وتأريخ وفاته للشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الحسن آل رُقيَّة، وهي:
لله أيَّة نكبةٍ حدثت
قصمت عُرى التقوى بباترها
لا غروَ أن جرت الدموعُ وأن
شبَّ التلهُّفُ في ضمائرها
هتف النعيُّ بفقد ماجدها
طود العلى، حاوي مفاخرها
الشيخِ ناصر بدر كل دُجى
محيي علوم الدين ناشرها
دفَّاع كل ملمة حدثت
ملجا العفاة وركن دائرها
غاصت بحارَ العلم فكرتُه
واستخرجت أسنىٰ جواهرها
الطالبون يفيدهم حِكَمًا
وتجود أنمله بهامرها
يا ناصر الشرع الشريف ومن
فاتت مزاياه لحاصرها
تبكي العلوم عليك من أسفٍ
والدمع يجري من محاجرها
إن تمسِ عنَّا راحلاً فلكم
أبقيت مكرمة لذاكرها؟!
تغشاك من ذي العرش رحمته
وسقى ضريحَك صوبُ غامرها
لا تَجْزَعَنْ عبد الإله([11]) وخذ
بالصبر، يا بشرى لصابرها
تبكي امرؤًا في الخلد مبتهجًا
بالحور ينعم في مقاصرها؟
أبقاك ربُّك بعده خلَفًا
يجلو سناك عمىٰ دياجِرها
لما قضى نادى مؤرخه
(تبك المدارسُ فقد ناصرها)
1299هـ.
وختمها بخمسة أبيات في الرد على المجسمة([12]).
————
([1])مجلة الواحة، العدد الثاني، ربيع الأول 1416هـ، سبتمبر 1995م، ص: 16 – 22، وكتابنا: (قطوف وحروف، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ودار أطياف، القطيف، الطبعة الأولى، 2018م، ص: 11.
([2])أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، الطبعة الأولى، 1380هـ، 1960م، ص: 336.
([3])مجلة الواحة، العدد 13، الربع الأول 1419هـ، 1998م، وكتابنا: (رحلة يراع)، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ودار أطياف، القطيف، الطبعة الأولى، 2018م، ص: 33.
([4])نشر مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1437هـ 2016م، ص: 62 – 63.
([5]) القيصرية، محورة عن قيسارية: اسم شائع في بلدان الخليج بمعنى سوق طويل ومسقوف على هيئة جملون عادة, الكلمات الدخيلة في لغتنا الدراجة، محمد ناصر العبودي، إصدار مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض، 1426هـ 2005م، جـ2/190.
([6])أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، طبعة 1377ه، وطبعة، 1380هـ، 1960م، ص: 350.
([7])طبعة من أدب الطبف بعنوان: سوانح الأفكار،دار المرتضى بيروت، 1410هـ، 1990م، جـ7/272.
([8])آل أبي السعود وآل نصر الله فرعان من آل البيات.
([9])القعضبي: السنان المنسوب لرجل يعمل الأسنَّة اسمه قعضب.
([11])الأزهار الأرَجية في الآثار الفرَجية، الشيخ فرج بن حسن العمران، دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، جـ9/585.
([12])هو ولده الشيخ عبد الله، له ترجم في أنوار البدرين ضمن ترجمة والده، وترجم له الشيخ العمران في الأزهار، جـ11/393.