فتية الحسين .. استثمار الوعي

عبدالإله التاروتي

من قدر له الاطلاع على شيء من سيرة قناديل الطف؛يمكن له أن يلحظ وبوضوح دون مشقة وعناء مجموعة من العناوين البارزة التي يجدها حاضرة مبثوثة قبل؛ وأثناء وبعد الحدث. إن على مستوى الخطاب؛ أو الممارسة والتفكير؛ أو الحضور الأخلاقي والعبادي؛ أو المشاركة الوجدانية فيما يتصل بعلاقتهم بالإمام الحسين؛ أو مع بعضهم البعض؛ أو حتى على مستوى التعاطي مع الآخر خطابا وممارسة.
فهذه العناوين ما كانت مجرد شعارات رفعت من قبلهم لتحقيق هدف آني قصير المدى وعند التمكن من تحقيقه والحصول عليه يتم رفعها إلى سلة المهملات أو في أحسن الحالات يصار بها إلى ملف الحفظ.
الحقيقة غير ذلك تماما .. ومن قرأ هذه الواقعة يدرك تماما ما أعني قوله.

ولعل في قراءة أبعاد وسمات تلك القناديل ما يمكن المطلع على الإمساك بجانب من توهج حضورها الفاعل حتى يوم الناس هذا لا بوصفهم شخوصا بل باعتبارهم منظومة قيمية عليا. إذ لم تعد مجرد قصة أو رواية يتسلى بها ضمن دائرة المعرفة والثقافة النظرية فحسب دون أن تأخذ طريقها إلى حيز القدوة والمثال أو ما يعرف في الدراسات السلوكية بالنمذجة. فما افرزته واقعة الطف من صدى إنساني يتعدى في ارتداداته نطاق المكان والزمن الذي جرت فيه؛ فهي لم تحدث لتكون مجرد ذكرى لحدث تاريخي عابر وكفى. إذ الخطوط العامة لسمات شخصيات رجالاتها تستعصي على الزمن أن يحد من مفاعيلها.

وعليه فنحن أمام نماذج لشخصيات استثنائية ونعني بالاستثنائية أنها غدت في موقع مكنها من معرفة كل أبعاد هذا التحرك من خلفية إدراك القائد؛ حيث كشفت الأحداث وطريقة سيرها أن هؤلاء ماكانوا فقط جنودا يأتمرون بأمر القائد الأعلى من منطلق نفذ ثم ناقش؛ هذه العقيدة العسكرية ما كانت حاضرة لدى هؤلاء فهم ليسوا مجرد بيارق تحرق في معركة لا يعرفون أهدافها التي انطلقت منها وإليها. بل تحركوا من موقع وعي القائد المسؤول. ولعل هذه السمة هي واحدة من أسرار نجومية هؤلاء الفتية؛ أضف إلى ذلك الزمن الاستثنائي الصعب الذي وجدوا فيه. وهذا مما لم يشهد له التاريخ مثيلا قديمه وحديثه. بمعنى آخر هم نادرة لم تتكرر في تاريخ البشرية؛ ولعل هذا الوعي من هؤلاء الفتية يفسر لنا عدم حصول انشقاقات في صفوف عسكر الإمام الحسين بالرغم من الاغراءات التي تم عرضها على غير واحد منهم؛ كالعباس بن علي ابي طالب عليهما السلام؛ وعلي الأكبر بن الحسين عليهما السلام؛ وهما طليعة الصف الأول من أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام؛ بينما شهد المعسكر المقابل انشقاقات على مستوى الرتب العليا – كالحر بن يزيد الرياحي ومن معه؛ بما يمثله من رمزية وموقعية متقدمة في معسكر عمر بن سعد بن أبي وقاص؛ بالرغم مما يتوافر في هذا المعسكر كل الأسباب الداعية للبقاء من حيث معرفة المآلات التي ستفضي اليها هذه المعركة من استشهاد للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه ؛ والذي يعني مكاسب وامتيازات محسومة. ومع ذلك سجل لنا التاريخ حالة الانشقاق في صفوفه؛ ولم يسجل ذلك عند هؤلاء الفتية!

وقد وصف أحد قادة جيش بن سعد هؤلاء الاستثنائيين مخاطبا فرقته العسكرية وهو عمرو بن الحجاج : أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم، والله! لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم
فحالة عدم الانشقاق في صفوف الإمام الحسين على قلة عددهم؛ وحصوله في صفوف ابن سعد على كثرتهم؛ يدل وبوضح على الروح الاستثنائية التي كان يتمتع بها هؤلاء القوم.
ولعل في سلوك الإمام الحسين مع هؤلاء ما يكشف عن الحالة الاستثنائية لهم لدى الإمام الحسين عليه السلام حيث كان يتعامل مع كل شهيد منهم بوصفه قائدا لا جنديا عاديا بل يجري عليه مراسيم التأبين كقائد طلائعي؛ وقد شهد لهم الامام الحسين بقوله ” فاني لا اعلم اصحابا اوفى ولا خيرا من أصحابي؛ ولا اهل بيت ابر ولا اوصل من اهل ببتي”
وما ذاك إلا لأنهم جمعوا بين الوعي والإرادة .
وعيا اخذ بايدبهم نحو استشرف المستقبل؛ واردة واجهت العقبات بتحويل الضعف الى قوة؛ والمستحيل الى ممكن؛ والمشكلة الى فرصة بحسب المعطيات واامتغيرات التي بين ايديهم؛ كل ذلك من خلال الانطلاق المدرك لاستثمار الوعي وتفعيل مناشط إنتاجه فيما يتصل بحركة الإنسان في خط علاقته بربه؛ وخط علاقته بأخيه الإنسان.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×