الملا عبدالله الخباز.. المغمور الذي يصدح الخطباء برثائياته
لؤي آل سنبل
عاش فقيراً، ومات مغموراً، لكن أثر بصمة شعره ما زال مستمراً بأصوات الخطباء كل عام. جمع الجدّ والهزل، وأتقن اللغة من دون أن يتعلّمها، وعلّم بعض أبناء الجيل اللاحق لجيله، واكتسب تعاطفهم واحترامهم.
هذا هو ملخص سيرة الملا عبدالله الخباز الذي عاش في القرن الماضي، ولم يعد يعرفه أحد إلا قلة من خطباء الجيل القديم.
الملا عبد الله الخباز
شاعر أهل البيت ا المغمور
الخطيب الملا عبدالله ابن الحاج عبدالله بن متروك، المعروف بالخباز، ولد في القطيف أواخر القرن الثالث عشر أو بدايات القرن الرابع عشر، وتوفي صبيحة يوم السبت 24/5/1362هـ. عبّر عنه الحجة الشيخ فرج العمران بقوله: (الشاعر الأديب شاعر أهل البيت) ([1]).
وقال عنه الشيخ محمد علي التاجر (هو من عوام الناس، لم يتلقَ أيَّ شيء من العربية، ولكنه لا يكاد يلحن في شعره) ([2]). واتصف بأنه (كان تقياً ورعاً صالحاً خيّراً)، كما وصفه العلامة الشيخ علي المرهون ([3]).
وقال عنه معاصروه والمتعلمون عنده: أنه كان خلوقاً مرحاً مداعباً لإخوانه، اشتهر بخفة ظله وروح الفكاهة والمرح، ففيه دعابة محببة للنفوس، بدت واضحة في شعره.
كان أحد خطباء منطقة القطيف، كما أنه اتخذ مهنة التعليم في (الكتـّاب)، فعلّم القرآن الكريم والقراءة والكتابة، كما تعلّم على يديه الكثير من الخطباء طرائق القراءة الحسينية، وامتهن الخبازة أيضاً، ومنها أخذ لقبه (الخباز)، قال الشيخ المرهون (امتهن الخطابة مدة عُدّ فيها من خيار الخطباء، ثم امتهن الخبازة مدة طويلة، حتى عرف بـ (الخباز)، فكان مخبزه من أجود المخابز وأنقاها وأكثرها نصحاً) ([4]).
وقال السيد سعيد الشريف: (هو أحد مشاهير معلمي القرآن الكريم والخط العربي المعروف في البلاد بالكتاتيب؛ وهو بالتالي أستاذ لكثير من الناس الذين برزوا بعد ذلك كعلماء وأدباء) ([5]).
كتب الملا عبد الله الخباز شعراً كثيراً، متعدد الأنواع والأشكال، فلديه الشعر العربي الفصيح، كما أن لديه الشعر الشعبي، ولديه الشعر الملتزم بقافية موحدة، إضافة إلى الموشحات، وشعره متعدد الأغراض، فإنّ المطّلع على ما تبقى من شعره يجد فيه:
- مدح ورثاء أهل البيت.
- رثاء العلماء.
- ذكر الأحداث التي يمرّ بها.
- الشعر الفكاهي.
وأشار إلى ذلك الشيخ علي المرهون بقوله: (وكان أديباً شاعراً يقول الشعر بكثرة في المناسبات وغيرها، بجميع أنواعه، حتى تكوّن لديه ديوان كبير بين مجلدين، وأكثره في أهل البيت ا، باللغة الدارجة والفصحى) ([6]).
أما الشيخ محمد علي التاجر فقال: (.. وهو مكثر من النظم، له على ما بلغني من بعض ثقاة بلده ثلاثة دواوين، وينظم على الطريقتين: الفصحى والنبط (الحسچة)، وله منظومة في خروج الحسين إلى كربلاء، مجارياً به منظومة الشيخ حسن الدمستاني، المعروفة بـ (أحرم الحجاج)، هذا من نظمه في اللغة الفصحى، وأما في النبط فله منظومة كبرى، مجارياً بها منظومة الشيخ محمد بن نصارة، إلى غير ذلك) ([7]).
وقد قال الملا عبد الحسين الصايغ ــ وهو أحد رواة شعره ــ: (له شعر كثير، عربي وشعبي ولم يخلُ باب من الأبواب إلا كتب فيه شعراً، منه أربع (نصاريات) (ميمية ورائية..) واحدة خاصة بالإمام الحسين ط، وثلاث في سائر المعصومين، كل واحدة منها أكبر من نصارية (ابن نصار)، وإن كانت أقل منها مستوى، وله شعر فكاهي كثير أيضاً).
وشعره مختلف النَفَس فبعضه قصائد طويلة، والبعض الآخر بيت أو بيتان، أو مقطوعة قصيرة، وذلك حسب الغرض المطروق.
ولكن.. للأسف الشديد.. فإن أغلب شعره قد ضاع، أو أنه موجود ولكن عند أيدٍ لا نعلمها، أو لا تريد أن تبوح بما لديها منه.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن شعره كان مشتهراً ذائعاً بين خطباء عصره في القطيف، وخصوصاً الشعبي منه، إلا أن أغلب الخطباء الذين كانوا يحفظون شعره، قد انتقلوا إلى رحمة الله تعالى، مما تسبب في ضياع هذا الشعر القيّم، ولم يبقَ منه إلا القليل الموجود في بعض المجاميع القديمة، وبعضه موجود ومتداول عند الخطباء إلا أنه غير منسوب لصاحبه، ولا أدلّ على هذه الشهرة من قصيدته في (زفة القاسم):
عريس حنونه | نسوه ايزفونه |
صاح السبط حزنان | نهضون يا فرسان |
زفوا الشباب الآن | قبلٍ يذبحونه |
أو الأبيات التي قلّما نسمع خطيباً في القطيف لا يقرأها، وهي:
شفنا اليموت ايجيه دفان | يحفر قبر ويفصل أكفان |
مشفنا اليموت ايظل عريان | اوتلعب عليه الخيل ميدان |
وذكر له العلامة العمران قصة تحت عنوان (ضالة الحجاج) حيث ضل عنهم الملا الخباز وهم في طريق عودتهم من الحج، والقصة طويلة مفصلة نذكر ختامها، حيث يقول الملا (… ثم نصبت على نفسي مأتماً وجعلت أنعى على نفسي بنفسي، وانتظر الخطر ساعة بعد ساعة، ثم قمت أمشي إلى أن مضت أربع ساعات من الليل.
… فجلست مكاني وجمعت لي وسادة من الحطب فنمت قليلاً ــ وسبحان الذي لا ينام ــ ثم قمت منزعجاً منذعراً خائفاً مضطرباً فتوسلت إلى الله تعالى أن يرشدني على الطريق ويخرجني من هذا المضيق، فقمت أمشي وأنا أهتف يا مؤمن يا مؤمن، فإذا أنتم تجيبون ندائي، وتبيّن أنكم قريبون مني والحمد لله وحده.
وحدّث الملا علي آل عبد العال، أن الخباز بعد هذه القضية نظم قصيدة طويلة في الإمام الرضا، وكان الملا علي يحفظها إلا أنه نسيها لبعد العهد وعدم كتابتها.
شهادات تلاميذ
وخلّف في قلوب معاصريه ذكراه الحسنة، ونذكر بعض ما سمعناه عنه من معاصريه:
- المرحوم ملا علي القيصوم ــ وهو أحد معاصريه ورواة شعره ــ قال عنه: خطيب وشاعر مجيد مكثر فيه دعابة محببة للنفوس، وإضافة إلى شعره الحسيني الكثير، له شعر كثير أيضا في الفكاهات.
- الملا عبد الله الصايغ ــ وهو أحد رواة شعره ــ قال: (شاعر ارتجالي، له شعر كثير، فصيح وشعبي ولم يخلُ باب من الأبواب إلا كتب فيه شعراً، منه أربع (نصاريات) (ميمية ورائية وبائية..) واحدة خاصة بالإمام الحسين ط، وثلاث في سائر المعصومين، كل واحدة منها أكبر من نصارية (ابن نصار)، وإن كانت أقل منها مستوى، وله شعر فكاهي كثير أيضاً، وشعره اليوم صعب الجمع لكثرته وتشتته).
- الملا عبد الله المعبر ــ وهو أحد تلامذته ورواة شعره ــ ذكر: إنه شاعر مكثر، وقد كتبت بعض أشعاره، وكانت لديّ إلا أنها ضاعت مني بسبب التنقل في السكنى، وكان ينظم الشعر وولده الملا حيدر مقابل له، فيستشيره ويقول له: ويش يا حيدر ؟ كذا ولا كذا ؟
- الملا علي آل عبدالعال: ــ وهو أحد معاصريه ــ قال عنه: كان أحد الخطباء القطيفيين، لكنه قليل الحظ في الخطابة، وكان يعيش حالة فقر مدقع، في ذلك الزمان الذي غلب على أهله الفقر والحاجة، وهو شاعر مكثر وله شعر حسيني قوي.
- الحاج عباس الخراري ــ وهو أحد تلامذته ورواة شعره ــ: أسمعنا بعض أشعاره، وقال ضاع منها الكثير، فهو شاعر مكثر، كتبت عنه أشعاره وقت تعليمي على يديه، إلا أن الدفاتر ضاعت مني بسبب الظروف التي عشناها.
ونختم هذا الحديث المقتضب عنه، ببعض شعره، فله في الرسول:
حق لي أن أمدح المختار ذا الشأن الرفيع
من به أسري ليلاً في السموات سريع
من تدنـّى قاب قوسين من الرب المنيع
خصّه الله بهذا وهو في الحشر شفيع
وحباه واجتباه منشئ الأرض الرميم
ولقد أرسله بالحق للناس رسول
أنزل الذكر عليه وارتضاه للقبول
وبه أحيا لأهل الدين في الذكر طلول
هو دار العلم لكن بابها زوج البتول
وله الحوض وساقيه الصراط المستقيم
ومن الرثاء قوله:
ألا ترى أهل كوفان وما فعلوا
على قلوبهم الشيطان قد طبعا
وخالفوا الله في الأحكام واتبعوا الشـ
ـيطان والكل منهم في الضلال سعى
صحائف قدّموها للحسين فما
وفوا بما قدموا بل أظهروا البدعا
خانوا العهود وجاؤوا بالجنود له
والكل منهم عليه رمحه شرعا
وحاولوه بأن يعطي القياد فما
أعطى القياد بغير العز ما قنعا
حاشا الحسين بأن يعطي القياد لهم
هذا أبوه الذي للشرك قد قمعا
أعطاهم الموت من سيف الفقار ولم
يخشَ الردى وعن الإسلام قد دفعا
حامى عن الدين حتى خرَّ منعفراً
فوق الصعيد بسهم في الحشا وقعا
ومهره راح للنسوان يخبرها
بحاله قائلاً ركن الهدى انصدعا
ومن الشعر الشعبي، قوله في مواجهة الحسين مع الحر:
سمعت الحورا الزمجره اوصاحت يشيّال العلم
اشْ مطلب اللي امعسكره اتحارب أبو سكنه الشهم
قبل الحرب يا بو الفضل ردنا المدينه بالعجل
قلبي نزل بيه الكدر والدمع من عيني انهمل
قلها استقري ابمحملچ لا ايصير قلبچ في وجل
عباس واخوانه إلچ يا زينب الحورا خدم
في الحال حفّت بالنسا الفرسان أصحاب الفخر
والأسد جرّد صارمه اولكبر اوجسّام الأغر
جرّد احسامه والبطل عباس للبيرق نشر
والشيف بيده جرّده اوشمّر أذراعه اوحزم
واستقر قلب امخدرة حيدر ابشوفتها الرجال
تقدم ظعنها اوتلتفت للحرم كلها ولعيال
واشحال زينب يا خلق بعد المعزه والدلال
ركبت على ظهر الجمل حسرى اوالدها انشتم
وقوله في العباس:
أبو فاضل ابيوم الكون يحلا له الدرع والطاس
اوحمل السيف يحلا له اويحلا له ركب لفراس
ضيغم لو سطا غضبان مثل المرتضى حيدر
أبوه اللي جتل مرحب او جيش المصطفى عبّر
اومن للعامري أردى اودين المصطفى أظهر
ضيغم لو سطا غضبان من بأسه تفر لرجاس
ومن رثاء العلماء قوله في آية الشيخ علي أبي عبدالكريم الخنيزي:
آه والهفي لشيخ كملت فيه الصفات
طود حكم بحر علم جامع للمكرمات
يا حماة الدين نوحوا واندبوا قطب الفخار
ولأهل الخط قولوا هدّ ركن الافتخار
مات والله الذي كان حمىً للمستجار
وحمى الشيعة جمعا من جميع الحادثات
——
([1]) الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية، ج1، ص 148.
([2]) منتظم الدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، ج2، 362..
([3]) شعراء القطيف.. من الماضين، ص247.
([4]) شعراء القطيف.. من الماضين)، ص247.
([5]) من أعلام القطيف عبر العصور.
([6]) شعراء القطيف.. من الماضين، ص247.
([7]) منتظم الدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين ج2، 362.