عمّار قريش.. أن تعيش محباً للحسين.. وتموت في عاشوراء فنان التزم أسلوباً خاصاً وعاش متسامحاً وأخلص لوطنه ومجتمعه
القطيف: صُبرة
لم يكن “رادوداً” بالمعنى التقليدي، ولا “مطرباً” بالشكل المعروف في الوسط الفني. كان مزيجاً متسامحاً متصالحاً على صلةٍ بالفن ومضامين الروح معاً.
ذلك؛ هو عمّار قريش الذي ودّعته القطيف، ظهر اليوم عن 57 عاماً، بعد أكثر من أسبوعين من مصارعة فيروس كورونا المستجد.
“أبو سراج” الذي شارك في مواجهة كورونا فنياً بأوبريت “باي باي كورونا” في عيد الفطر الماضي؛ تدهورت حالته الصحية في الأيام الأخيرة، وحسب صديقه يحيى قريش؛ فقد تعطّلت أجهزته الحيوية قبل ثلاثة أيام، وقبيل أذان ظهر اليوم؛ صعدت الروح إلى بارئها، ليفقد الوطن واحداً من أبنائه البررة.
فمن هو الرادود/ المنشد/ الفنان عمّار قريش..؟ وما هي قصته..؟
أسرة فنية
وُلد عمّار قريش في أسرة ذات حسٍّ فنّي خاص. والده المعروف في صفوى بـ “كريّم”؛ كان مؤذّناً ومن مجايلي الأطوار المنبرية الحسينية، وكان على صلة بخطباء النعي العراقيين والمحليين.
وشقيقه هو الفنان حسين قريش، ولديه شقيقان آخران هما عبدالرؤوف وفكري لا يقلّان اهتماماً واشتغالاً بالفنّ من زاوية من ما.
باختصار: عمار قريش ابن أسرة فنية بشكل أو بآخر.
لكن له سيرة ذات خطٍّ خاص تعلّق به منذ أيام مراهقته. وهي سيرة أقرب إلى سيرة والده مُضافاً إليها توجهه إلى الدراسة الدينية في مرحلة الثمانينيات، والتزم معها رؤية متسامحة مع محيطه. في داخله فنّان حيٌّ، إلا أن هذا الفنان متواصل مع أنماط مختلفة من الفن.
عمار قريش ويحيى قريش في الكويت أوائل الثمانينيات
الدراسة والعمل
درس في مسقط رأسه، وحين شبّ اتجه إلى ميدان العمل في شركة أرامكو. ثم انقطع عن العمل وعاد إليه بعد سنوات، ليعمل في مكتبة الشركة في راس تنورة. إلا أنه لم ينقطع عن شغفه الأول الفنّ الذي يُمكن أن نصفه بـ “الفن الملتزم”.
يقول صديقه وابن عمه يحيى قريش إنه سعى ـ منذ بداية اشتغاله ـ إلى إدخال الموسيقى في الأناشيد الإسلامية، وقد واجه صعوبة في تقبّل الوسط الذي عاش فيه، بالذات في الثمانينيات، لكنّه نفّذ رؤيته في السنوات الأخيرة، وظهر منشداً ورادوداً، لا تتنافر عنده مضامين الدين مع مضامين الحياة. ومن نتاج ذلك أداؤه مقاطع حسينية قديمة بلمسة حديثة، كما استعان بنصوص شعر كتبها بعض المشايخ وأدباء ذوو صبغة دينية.
مضامين متعددة
وفي مضامين أخرى؛ أدّى وصلاتٍ “إنشادية” موسيقية ذات صلة بالموروث القطيفي، مثل عمله “كريكشون ناصفة” الذي عبّر فيه عن موروث “الناصفة”، مستخدماً الاصطلاح الأشهر في القطيف “كريقشون”، بدلاً عن التسمية الصفوانية “حال وعاد”.
وبعد جريمة تفجير مسجد الإمام علي بالقديح، عام 2015، قدّم عملاً إنسانياً فنياً، في أوبريت مدمج وثائقياً، وضمّن عمله رسالة وطنية مسؤولة ضدّ الإرهاب.
لكنّ رؤيته الوطنية متسعة إلى أبعد من ذلك، وما زال أوبريت “يا بلادي سارعي” يسجّل انتشاره بعد أشهر من إنتاجه ضمن فريق عمل متكامل.
قريش موجود ومتفاعل مع محيطه، وفي جائحة كورونا كان عمله “باي باي كورونا” متفائلاً بذهاب الجائحة، داعياً الناس إلى العودة بحذر.
صوت عميق
عمّار قريش صوتٌ فني عميق، لكنه لا يمارس عمله وحيداً، بل حرص على فكرة عمل الفريق. ولذلك؛ فإن معظم أعماله تُؤدّى ضمن رؤية فنية إخراجية فنية حقيقية. وهذا ما ربطه بسلسلة من أعمال التعاون مع مصورين ومصممين وممنتجين، فضلاً عن الشعراء والمنتجين. وكان صوته المتعدد الطبقات؛ عصباً أساسياً في أغلب ما قدمه من أعمال لا تُعبّر عن الرؤية الدينية المحضة فحسب، بل تعبّر، أيضاً، عن “الجمال والفرح”، على حدّ تعبير يحيى قريش.
المؤذن
يسرد أصدقاؤه عنه قصة إصراره على أداء الأذان في كل مسجد عرفه. يحيى قريش وفايز الحبيب صديقان التصقا به قرابة نصف قرن. الحبيب يقول إنهم تصاحبوا منذ سنوات طفولتهم الأولى في حي “خارج” الواقع غرب صفوى القديمة. في هذا الحي نشأ الثلاثة، وترافقوا، وسافروا معاً، وتقاسموا الخبز وأوقات البهجة والمعاناة.
ويشيران إلى أن عمّار قريش كانت لديه رغبة في أي يؤذن في كل مساجد القطيف. وقد أنهى ذلك في مسقط رأسه صفوى، ولديه طريقة في الأذان تكاد تُعرف بـ “طور عمّار”. وكان يؤديه في جامع الكوثر. ويُمسك يحيى قريش بتوقيت وقت وفاته.. بقوله “كان يحب الحسين وتوفي في يوم عاشوراء، وكان يحبّ الأذان، وتوفي قبيل الأذان”.
يُصغي للآخر
صديق آخر من أقصى جنوب القطيف لديه شهادة مماثلة. فؤاد الباشا تشارك وعمّار قريش في عشراتٍ من الأعمال والأوبريتات والمهرجانات، من موقعه كمهندس صوت. وحسب كلامه فقد عاشره منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعرفه عن كثب. وهو يصفه بصاحب الحس الاجتماعي الشفاف.. يقول “كان يوصينا بالدعاء لمرضى كورونا باستمرار”، وعن أدائه الفني يقول “كان يؤدّي بإحساس عميق، ولا يستهين برأي الآخرين، بل يطلب رأيهم ويُصغي إليهم”. يضيف “كان بسيطاً وكبيراً”.
عاش عمار قريش 57 سنة، وخلّف 5 من الأبناء والبنات، وكان له أسلوبه الفني الخاص أيضاً. وعلى هذا يقول الشاعر حبيب المعاتيق في تأبينه “كل ما أستطيع أن أقول هو أننا فقدنا هذا اليوم أحد الأصوات الحسينية المختلفة في ساحة النعي والإنشاد الديني، ارتبط في حياته بالحسين وأبى إلا أن ترتبط وفاته به فهنيئا له هذه الخاتمة”.
———–
شهادات
متابعة: معصومة الزاهر
عندما أتحدث عن الراحل العزيز عمار قريش فإنني أتحدث عن ذلك الصوت الولائي الذي تربينا عليه منذ ٤٠ عاما. شخصيا كتبت له الكثير من القصائد كان آخرها أوبريت “عناقيد التفوق” الذي عرض في مهرجان التفوق الطلابي بمدينة صفوى قبل إعلان الحجر الصحي بمحافظة القطيف بأيام معدودة.
المنشد أبو سراج أنموذج نرى به التحولات التي مر بها فن الإنشاد في مجتمعنا، متذكرين كيف أسس الفرقة الإنشادية في مقتبل حياته الفنية التي كانت تغذي الاحتفالات الدينية.
كانت البشاشة لاتفارق وجهه.. وبفقده نفقد الابتسامة البيضاء الصافية التي تعكس الطيبة التي يتحلى بها.
الشاعر ياسر آل غريب
علاقتي مع ذلك الإنسان الطيب الخادم لمجتمعه ودينه ووطنه الأستاذ عمار آل قريش وُلدت بفضل المرحوم خادم أهل البيت الملا علي هلال آل حمود فهو من عرفني به، لا يمكن إيجاد وصف مختصر لنقاء سريرته سوى القول إنك ـ يا أبا سراج ـ قطعة من جنة الله على أرضه.
جمعتني مع المرحوم عدة أعمال مشتركة، فلم يقتصر نشاطه الاجتماعي على الإنشاد وإٕنما كان يكتب الشعر حيث شارك معي في كتابة نص شعري بعنوان (نمير الشوق) لإصدار (ألحان الشوق) بأداء المنشد علي هلال ، وشاركنا معا في إنشاد أوبريت لمولد الإمام الحسن بن علي عليه السلام بمسجد الحمزة بن عبد المطلب عليه السلام بسيهات. وشاركنا المنشد ماهر الحمدان حفظه الله ورعاه، إضافة لمشاركة أخيرة في عمل إنشادي يخصني باستوديو ميثاق للمهندس رائد آل نتيف بعنوان (جنازة مسيرة) حيث شاركني أداء (الكورال).
جملة موجهة لي من قبله مطبوعة في ذاكرتي ووجداني حتى اليوم لن أنساها ماحيبت “الشاعر ذو الصوت الجميل سريع التأثير في المتلقي وأنت تملك الموهبتين يا أبا فاطمة، أرجو أن تواصل مشوارك ولا تنظر للوراء”.
كل تلك دلالات على تواضع ذلك الإنسان الجميل طيب الأصل وتحفيزه للطاقات الشابة ، حق للقطيف بأن تحزن لوداع قامة لن تعوض ، رحمك الله أبا سراج رحمة الأبرار وأسكنك الجنة مع محمد وآله الأطهار.
محمد عبدالمحسن آل يوسف
القطيف تودّع الرادود عمّار قريش بعد أسبوعين من مقاومة كورونا