[5] ليهجرَ الجميعُ النوم
محمد الماجد
كان على زكي اليحيى، القارئ النهم للعمل الروائي بشكل عام، وللرواية التاريخية على وجه الخصوص، أن يكتب هو عن هذا الموضوع وليس أنا، أولاً: لأن عدم شروعه، إلى جانب السيد محسن الشبركة، في الكتابة النقدية روايةً، وشعراً، هو خسارة للتجربة النقدية المحلية التي تعاني من ضمور وتآكل في أدواتها، وثانياً: لأنه هو من أهداني هذا السفر (عزازيل) لــ يوسف زيدان، بجانب رواية لــ جيلبرت سينويه اسمها (ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان) ، كل هذا مقابل نسخة أنيقة من (الريل وحمد) كنت اشتريتها من سوق الحويش الشهيرة في النجف الأشرف.
وحتى قبل شروعي في قراءة الروايتين، كنت أعتبر أن هذه المقايضة كانت خاسرة، أما الآن فأنا على استعداد تام للقيام بمقايضات مماثلة. ووفاء لولَع زكي بالرواية التاريخية الذي تحول مع الوقت إلى ورشة عمل دائمة، كنت سأقرأ الروايتين على كل حال، على أمل أن أعود لاحقاً وقد انتهيت من القراءة، وأشهرت اسمي كأحد المنتسبين الجدد إلى الورشة.
بدايةً اشترطت لدخول الورشة أن يتم تأجيل جيلبرت سينويه وروايته عن ابن سينا، فأنا من عشاق الشيخ الرئيس ولن أسمح بأن يتحول إلى موضوع اختبار أو ملصق في ورشة، وهكذا اتفقت مع زكي على البدء بـــ (عزازيل) زيدان أولاً، ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أن (عزازيل) كانت في الواقع أقل من اختبار وأكثر من مجرد تسلية، على أن هذا التقييم لن يمنعني من الاعتراف بأنني لم أحلم برحلة مشابهة من قبل، فمن نجع حمادي إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى أورشليم، ومن أورشليم إلى أنطاكية، مروراً بدمياط وصحراء سينا ودمشق وحلب، كانت رحلة هيبا الراهب بطل الرواية، وقد تمكن بمعونة يوسف زيدان من أن يحول كل تلك المنطقة المطلّة على شفير القرن الخامس الميلادي إلى بحر مليء بالدوامات والتيارات الأيدلوجية.
وما إن بدأت الإبحار حتى دفعتني الأمواج إلى حافة بيرمودا روائي، مثلث جارف من التاريخ واللاهوت والفلسفة، فقلت في نفسي: أنت لا تريد أن تعيد تجربتك المريرة مع أمبرتو إيكو في (اسم الوردة)، فليس من السهل على أي أحد المجازفة بعبور هذا المثلث أو العبث بأحد أضلاعه، ولكنني أردت أن أتأكد بأن غرقي لم يكن أحد دوافع زكي من وراء الإهداء فتابعت الإبحار، قليلاً حتى تبيّن لي بأن التيارات هنا أخف حدةً، أو أنني اكتسبت مناعة دون أن أعلم، فأنهيت قراءة “عزازيل” سريعاً، خلافاً للمعتاد، وبلا خسائر سوى هبوط ذهني، وتنمّل في الأطراف، وبراءة زكي بالطبع وهذا هو الأهم، وللحقيقة، أنا هنا مدين لزيدان كثيرا، فهو لم يترك حقول روايته نهباً للجراد الفلسفي ونباح كلاب المحققين كما فعل إيكو، فقد كان وفيّاً للروح المصرية في الرواية، وكأن نجيب محفوظ كان يهمس في أذنيه طيلة الوقت، وكأنه اقترح عليه أن لا يترك بطله هيبا وحيداً في عراء الخدمة اللاهوتية، فكانت السنديانتان فارعتا القوام: أوكتافيا ومرتا، فتاتين برسم الرغبات غير الملجَمة للراهب القلق، وقد أفرد زيدان لخلواتهما بـــ هيبا ما يقارب من ربع رقوق روايته البالغة ثلاثين رقَّاً، وهي الخلوات التي لم تكن بريئة بالطبع، خلوات لم يذق فيها جسد الراهب طعم البرد ولا الجفاف، والأهم، أنها أعطت لأمثالي ذريعة لمراقبة نمو السنديانتين وإكمال الرواية مع قدر عظيم من الغبطة للراهب سعيد الحظ!!.
وبمناسبة حديثي عن (اسم الوردة)، أتذكر أنني قمت بقراءتها قبل قراءتي لــ (عزازيل) بسنوات بحكم التقادم، وأتذكّر أيضاً كيف أن صبري لم يكن كافياً لمجاراة بطل الرواية المحقق غوليالمو وحبكة ايكو البوليسية والمليئة بالمتاهات، لذلك سقطت في اليوم الثالث أو الرابع من عمر الرواية الايطالية البالغ سبعة أيام دون أن أفكر في الرجوع إلا بعد فترة تمكّنت معها من استعادة عافيتي، وبصعوبة تمكنت من السير ومواصلة القراءة، ومع ذلك وعندما أعود الآن للمقارنة بين الروايتين، وبالرغم من أنني ما زلت أعاني من ذاكرة مهشمة نتيجة لذلك السقوط المدوّي، إلا أنني لم ألحظ أي شيء من الممكن أن يخدش حياء الرواية المصرية فيما يخص تتبّعها لأثر (اسم الوردة)، فضلاً عما أُثير من سرقة زيدان لها. فالسنديانتان أوكتافيا ومرتا لوحدهما كانتا ستصنعان الفرق بين الروايتين، محاضرات هيباتيا، شعر الراهب هيبا، طبابته، ترحاله المستمر، طبوغرافيا الرحلة، كل ذلك كان سيوسع الفرق أشواطاً إضافية، الأمر الذي لم يرغب أمبرتو إيكو في عمل شيء مقارب له، ببساطة لأنه كان يسبح في فضاء روائي مشحون بالأنواء، ولم تكن سماءه صافية كما كانت سماء (عزازيل)، ولكن هذا لن يمنعنا – وعلى سبيل التوصيف – من القول بأنه لم يكن متعاطفاً مع رغبات غوليالمو (الجسدية) كما كان يوسف زيدان مع هيبا الراهب، وفيما عدا الذكاء المتوقد لدى غوليالمو، وأوجاع الفلسفة الطافحة على تفكيره على الدوام، لم يمنحه إيكو سوى ذلك التلميذ البندكتي المخلص أدسو، الراوي الذي أنعم عليه إيكو بفضيلة السرد وبمنامات جلُّها كان من التجديفات التي لن يُسرَّ أستاذه غوليالمو لسماعها، وسيتمنى دانتي معها لو أنه لم يطبع (الكوميديا الإلهية)، ولكي يُحكِم إيكو قبضته، توّج كل ذلك بأنْ أرسل غوليالمو في مهمة تحقيق إلى دير غامض، وبعد أن سدَّ عليه منافذ الدير، أخبره أن لا سبيل له للخروج حتى يطرد تلك الريح السوداء من الجرائم التي كانت تنذر باقتلاع الدير من جذوره. أقول ذلك ولا أنصح أي ناقد بعمل مقارنة من هذا النوع المتعجل بين (عزازيل) و(اسم الوردة)، لأن مقارنته هذه ستنبه غوليالمو إلى الحال (المرفهة) التي كان عليها بطل (عزازيل) وربما اضطره هذا الشعور المرير بالحيف إلى رفع دعوى ضد أمبرتو إيكو!!.
الكلام عن سرقة زيدان لإيكو محض افتراء، وهو أشبه بإفراغ ذخيرة حيّة في حفرة من الهواء. ولا أدري ما إذا كان من الواجب علينا في كل مرة نتحدث فيها عن التناص أو العُلقة السَّديمية بين نصين أن نستدعي (أسد) بول فاليري الشهير لنقوم بتشريحه لنكتشف بعدها بأنه ليس أكثر من (خراف مهضومة)، (عزازيل) أيضاً ليست أكثر من خراف مهضومة، وليس من الحكمة أن نذبح الأسد لنتأكد، علينا فقط أن نتذكر كل مخطوطة حققها زيدان، كل كتاب قرأه، كل فكرة فلسفية ناقشها، كل ترنيمة ألّفها وجمع لأجلها صبيان الدير، كل هزائم هيبا الراهب وانتصاراته، وبعدها لن يكون من العصيّ علينا التعرف إلى ينابيع كل تلك الخبرة الأحفوريّة في (عزازيل)، وإذا أردنا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فعلينا التوقع أيضاً بأن زيدان وفي طريقه للتحضير لعمله هذا قام بقراءة (اسم الوردة)، ثم ماذا؟، لا شيء سوى حكمة لاعب النرد درويش:
“تلك القصيدة ليس لها شاعر واحد”
في الواقع أشياء كثيرة من الممكن أن يثيرها عمل زيدان الرائع هذا سوى السرقة أو الوقوع الفادح في التقليد، أشياء ربما كان لها علاقة ببعض القراءات الغريزية للنص، وبطريقة تعاطيها المتسرع معه، وبمجانية النقد أيضاً، ولحد الآن هذا طبيعي جداً في نظري، فنحن بشر، وبعضنا يفعل ذلك أحياناً بقصد التّشفي، وأحياناً لدواعي التسلّق وحب الظهور، ولكن كل هذا لا يلبث أن يتبخّر أمام قوة الحقيقة، أو أمام عظمة (الأقنوم) كما تقترح علينا نقاشات (عزازيل) الفلسفية.
والآن
هل جاء دور بافاروتي؟
نعم، فهذا هو الوقت المناسب لأستعين بحنجرته السوبرانية وأدائه الساحر للـــ نيسون دورما (ليهجر الجميع النوم)، الأداء الذي ستستحيل معه السوناتات القصيرة إلى ملاحم أوبرالية عظيمة، لتذكرني دائما ببراعة زيدان وأمبترو إيكو في تحويل اللُّقية الأثرية إلى عمل مُلهِم وملحمي، فكلاهما يشتغل على طبقة السوبرانو ذاتها مع فارق نقاط واضح لـ إمبرتو إيكو تمليه تلك الغيرة الوطنية التي تجمعه بـــ بافاروتي بالإضافة إلى إجراءات روائية غير مسبوقة تميّز بها الباحث الإيطالي في تجربته الروائية الأولى، ولكن لتلك قصة أخرى، فما يعنيني الآن هو الإشارة إلى دور اللّقية الأثرية، فـــــ (اسم الوردة) كما يعرف الجميع كان أصله مخطوطة قصير لــــ “دون أدسون دا مالك”، و (عزازيل) كان عبارة عن مجموعة من اللفائف التي تعود للقرن الخامس الميلادي. تداعت هذه اللُّقى الأثرية لنداء المؤلِفَين وتحوّلت إلى أسفار مجنَّحة وكاسرة لنواميس الطبيعة، وكأنها سرب ضال من طيور الخليل إبراهيم.
وبمناسبة اللُّقى الأثرية أريد أن أعود هنا إلى هدية زكي الثانية: رواية (ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان) لــــ جيلبرت سينويه، هذا المؤلِّف اعتمد هو الآخر على مخطوطة من عشرين صفحة لـــــ أبي عبيد الجوزجاني، تلميذ ابن سينا، وصنع منها تلك الرواية التي تقع في 479 صفحة، وزيادة على أن ثلاثية ابن سينا وتلميذه أبي عبيد والرقوق التاريخية عند سينويه ستذكرنا بثلاثية غوليالمو وتلميذه أدسو والرقوق التاريخية عند إيكو، أقول زيادة على ذلك، فإن هذا العنوان سيحيلنا أيضاً إلى عنوان لإحدى روايات زيدان الأخيرة (فردقان، اعتقال الشيخ الرئيس)، الأمر الذي تمنيت لو عدت له قريباً، دون أن يعطي هذا انطباعاً لأحد بأن هذه دعوة مني لإعادة الحديث عن موهبة بافاروتي أو حكمة لاعب النرد.
28/8/2020 م
اقرأ الحلقات السابقة